يستطيع الإنسان أن يقول أو يفعل ما يريد، في الزمان والمكان الذي يريد، وبالطريقة التي يريد، محققا الأهداف التي يريد، لكن ذلك كله قد يصدر منه إما في حالة وعي تام أو حالة لاوعي أو درجات بين ذلك.
يستطيع الإنسان أن يقول أو يفعل ما يريد، في الزمان والمكان الذي يريد، وبالطريقة التي يريد، محققا الأهداف التي يريد، لكن ذلك كله قد يصدر منه إما في حالة وعي تام أو حالة لاوعي أو درجات بين ذلك.
فالعقل الواعي هو الذي يدرك ماذا يفعل، ويدرك متى يفعل وأين يفعل، وكيف يفعل، ولماذا يفعل، يدرك الزمان والمكان والحال والمآل، يدرك ويستوعب الأبعاد كلها للفعل، أما العقل اللا واعي فإنه يفعل كل ذلك بلا إدراك ولا وعي، وبين ذانك العقلين درجات كثيرة يتمايز فيها الناس بوعيهم وإدراكهم وحسن اختيارهم لما يفعلون.
تكمن أهمية الوعي بما نختار ونفعل في كون ذلك يوسع حرية العقل لدينا، فنتحكم بالأفعال التي ندركها ولا تتحكم بنا الأفعال التي لا ندركها، وهذا سيجعل اختياراتنا هي الأفضل، فنحقق الحكمة المبتغاة في الفعل.
العقل الواعي يتقن فقه الأولويات، فيعرف مراتب الفعل في الأهمية عند اختياره هل هو فعل ضروري لحياته أم حاجي أم تحسيني، وهل تأثيره آني أم مستقبلي، وهل خيره عام أم خاص، وهل هو فعل لازم يعود نفعه وضرره عليه وحده، أم فعل متعدٍ قد يضر أو يفيد غيره، العقل الواعي يعرف ذلك كله فيفقه الموازنات بين الأفعال وتكون الأولوية لديه واضحة فيختار ما يحقق المصلحة سواء له أو لمجتمعه، فيميز بسهولة بين الخير والشر، وبين خير الخيرين وشر الشرين.
العقل الواعي لا ينظر لدائرته الضيقة فقط، وإنما يتعدى ذلك لدوائر أكبر لها تأثير على دائرته الصغيرة، يرى القريب والبعيد، يتجه إلى الأمام ولا ينسى مرآته للخلف، بصره في السماء ونظره في الأرض، يعيش الحاضر ويستشرف المستقبل ويستعين بالماضي.
العقل الواعي يحاول بقدر الإمكان أن يكون في تصوراته وأفعاله متناسقا لا متناقضا، وواضحا لا غامضا، وبسيطا لا معقدا. يحلل القضية التي أمامه ليعرفها أكثر، لا يكتفي بنقاط الشبه بين الأحداث والقضايا وإنما يبحث أيضاً عن نقاط افتراقها فيكون حكمه عليها أصدق ورأيه أعمق وأدق.
العقل الواعي يستقرئ ويجمع ما تناثر من الصورة ليعرف الصورة كاملة للأحداث والقضايا، فلا يكتفي بتفسير جزئي لكل حادثة وإنما يحاول أن يبحث عن تفسير كلي لتلك القضايا والأحداث، العقل الواعي يولد احتمالات كثيرة لكل قضية ثم يستغني عن أبعدها واقعا ومنطقا حتى يصل إلى الاحتمال الأقرب، إن قدرة ذلك العقل على توليد الاحتمالات يعني اتساع الرؤية عنده.
العقل الواعي دقيق في الحكم غير كسول في البحث، لا تشوشه اتساع وتنوع وسائل الثورة المعلوماتية، ولا تستغفله جهات ليرى ما تراه من المعلومات والأحداث، وإنما يبحث ويتساءل ويغربل باستمرار، يمحص أي معلومة يلقاها ولا يسلم سريعاً في تصديقها، ومع الأيام تكون لديه ملكة يعرف سريعا زيف المعلومة من حقيقتها لأول وهلة. العقل الواعي لديه القدرة على طرح الأسئلة المتعددة في القضية الواحدة، أسئلة تسبر أغوارها وتجليها فيعرفها أكثر.
العقل الواعي لا يبحث فقط عما يؤيد اتجاهه وإنما قد يذهب ليرى ما عند مخالفه فإن وجد عنده شيئا يستحق غير رأيه وإنما لم يجد زاد اقتناعا بما عنده، العقل الواعي لا يصدر أحكامه سريعا وإنما كالقاضي يسمع من الفريقين ويرى حججهما ثم يتأمل ويصدر حكمه. العقل الواعي يعرض ما توصل له بصدق ودون تحيز. العقل الواعي لا يقف عند حالة واحدة في الوعي وإنما يزداد يوما بعد يوم ما دامت حياته تزداد.
العقل الواعي لا يقدس الرأي الجديد لجدته ولا القديم لقدمه وإنما لما يحمله الرأي من عقلانية ومنطق وبرهان. العقل الواعي يبحث عن نقاط ضعفه باستمرار كي يقويها، العقل الواعي لا يرى بأسا في عدم معرفته بشيء فلا يجادل بلا علم. العقل الواعي يعرف متى يقول “ربما” ومتى يقول “بالتأكيد”. العقل الواعي يدرك أن للحقيقة عدة أوجه فيجمع أصحاب الرؤى الواحدة ليلتقط لهم الصورة من أكثر من اتجاه ويرتب الاتجاهات بحسب أهميتها. العقل الواعي لا يشتت نفسه بين الأشجار والحقول وإنما يبحث عن رحيق الأزهار ثم يعرف الطريق إليها.
في لحظة ما يحتاج العقل الواعي للنسيان كي يصهر ما خزنه من معارف لينتج زبدته الخاصة
من لبن المعرفة، يحتاج للتمرد كي يضيف إلى شيء.
تلك خطوط عريضة للعقل الواعي وبقدر استحضارها كاملة يكون في أعلى درجات الوعي، وبقدر تعلمها وتمرسها تكون عادة سهلة وتصير ملكة مع الأيام، يغذيها ويوسعها ثلاثة أشياء: المعرفة وتجارب الحياة مصحوبتان بالتأمل.
العقل الواعي لا تحده هذه الكلمات مهما حاولت، ولا يستطيع كاتب أن يقول إنه احتوى كل صفاته مهما حاول، وستظل سيمفونيتنا ناقصة كسيمفونية إينشتاين “وما أوتيتم من العلم إلا قليلا”.