شكلت مأرب جغرافيا سياسية وعسكرية ونواة صلبة ومتماسكة للمشروع الوطني والعربي لمقاومة النفوذ الإيراني في اليمن والمنطقة، إضافة إلى الرمزية السياسية والعسكرية لمأرب باعتبارها نواة العمليات العسكرية لتحرير صنعاء واستعادة الدولة. من زمان وانا أفكر في الكتابة عن مأرب، سد الجمهورية التي لمت السيل الجمهوري من كل الأرجاء اليمنية، وكنت أقول في نفسي ربما لا أستطيع أن أوفي تلك المحافظة التي تعرضت للتشويه القاسي وتحتاج إلى الإنصاف وإعادة صياغتها ضمن الإرث الحضاري والنضالي القديم الجديد لليمنيين.
مأرب التي ترعرع في جبالها علي بن ناصر القردعي، المسمار الأول الذي وضع في نعش الإمامة الكهنوتية التي أذلت الأرض والإنسان في هذا البلد المعذب.
والأهم من ذلك المفارقة العجيبة التي جسدتها مأرب وقدمت نموذجاً لحضور الدولة كضربة معلم لمن ظلوا خلال الثلث قرن يروجوا على أن مأرب وبنيتها الاجتماعية تقف على الضد من مشروع الدولة، والذي كان يوصف مأرب على أنها تقاتل الدولة أصبح يقاتل مأرب التي تحمل لافتة الدولة، بينما يقاتل بجوار مليشيا سلالية إمامية على الضد من الدولة الجمهورية..
واللافت في الحالة التاريخية الراهنة في مأرب مسألة الانضباط الاجتماعي التي أظهرتها البنية القبلية في مأرب والتصالح بالغ الحجم والتأثير بين القبيلة ومشروع الدولة، بين القبيلة والمشروع السياسي المدني، كما لو أنها أصبحت جزء لا يتجزأ من النسيج المدني للمجتمع الجمهوري الجديد والمتجدد..
كما أن بروز الأصالة والشهامة الحضارية في مأرب كان له حضور بالغ الحجم والتأثير من حيث الاسناد والترابط والتضامن والدفاع باستبسال عن كبرياء الأمة اليمنية التي تعرضت لجرح مس كيانها العام وهويتها الجامعة..
على المستوى الشخصي ربما يكون الشخصية السياسية التي تجمعني به حالة صداقة ومعرفة قديمة هو محافظ مأرب، ففي ذروة الثورة الشبابية التقيت به مع صديق لي من أبناء جهم في منزل العرادة واستمعنا له واستمع إلينا وتناقشنا عن قضايا كثيرة، ولفت انتباهي وعيه بمسألة الهوية اليمنية وكذا الوعي بحركة التاريخ ومسألة الصراع الإمامي الجمهوري والدور المحوري البارز لمأرب حينها سألته برأيك هل لا تزال البنية الاجتماعية في مأرب متعافية ولم تتعرض للخلخلة كما حصل للبنية الاجتماعية في الطوق المحيط بصنعاء وبعض قبائل شمال الشمال التي تعرضت الشهامة والقيم والأعرف الأصيلة فيها للتجريف القاسي نتيجة نظام الائمة ونظام ثلث القرن الذي كان نسخة إمامية بثوب جمهوري؛ قال لي حينها يبدو أن بُعد مأرب نوعاً ما عن مركز السلطة جعلها تحافظ على قدر جيد من الشهامة، وأضاف أن الصورة التي تم تقديمها على أن مأرب تقف على الضد من مشروع الدولة صورة ظالمة عن مأرب.
اعتقدت أنا حينها أن الرجل يبالغ في حبه لمأرب، وكان ذلك قبل أن يصبح محافظاً لها، غير أن حركة التاريخ تحمل كثير من الإنصاف وتضع كثيراً من الأمور على حقيقتها، واللحظة الراهنة التي أعادت مأرب من جديد إلى الذاكرة الجمهورية والحضارية ليس على مستوى تصالح مأرب ومحيطها الاجتماعي مع مسألة حضور الدولة، بل على مستوى أكبر من ذلك كون مأرب شكلت سد يلم الشمل الجمهوري الاتحادي الواسع وكذا استعادة الدولة.
بل شكلت مأرب جغرافيا سياسية وعسكرية ونواة صلبة ومتماسكة للمشروع الوطني والعربي لمقاومة النفوذ الإيراني في اليمن والمنطقة، إضافة إلى الرمزية السياسية والعسكرية لمأرب باعتبارها نواة العمليات العسكرية لتحرير صنعاء واستعادة الدولة، وكذا باعتبارها عاصمة إقليم سبأ وأحد الرهانات الناجحة لمشروع الدولة الاتحادية التي تقاوم من أجل تحقيقها مأرب وكل اليمن على أساس المرجعيات الثلاث المبادرة ومخرجات الحوار والقرار الأممي، إضافة إلى اللافتة العامة للمقاومة الشعبية التي انخرطت فيها مأرب في وقت مبكر وهي اسقاط الانقلاب واستعادة الدولة ولقد شهدت مأرب تحولات مهمة منذ ثورة 11 فبراير التي جاءت لتغيير جذري لكثير من الاختلالات والتي من بينها الاحتكار المركزي للسلطة والثروة.