لطالما حظيت
قضايا بعينها باهتمام عالمي كثير، في حين يتم تجاهل قضايا أخرى، على الرغم
من أن كثيراً من هذه القضايا والأزمات الأخرى التي يتم التغاضي عنها لا
تقلّ أهمية عن سواها. على سبيل المثال، ما زال النزاع في اليمن يُجابه
بتجاهلٍ وتغييب من الأجندة الدولية، على الرغم من الخسائر والكوارث
الإنسانية التي خلفتها الحرب، بعد أكثر من عام على انفجارها. يحثّنا هذا
التغييب المتعمد للنزاع الجاري في اليمن، على المستويين، الإعلامي
والسياسي، على محاولة فهم منطق صناع القرار في صياغة الأولويات والأجندة
الدولية.
لطالما حظيت قضايا بعينها باهتمام عالمي كثير، في حين يتم تجاهل قضايا أخرى، على الرغم من أن كثيراً من هذه القضايا والأزمات الأخرى التي يتم التغاضي عنها لا تقلّ أهمية عن سواها. على سبيل المثال، ما زال النزاع في اليمن يُجابه بتجاهلٍ وتغييب من الأجندة الدولية، على الرغم من الخسائر والكوارث الإنسانية التي خلفتها الحرب، بعد أكثر من عام على انفجارها. يحثّنا هذا التغييب المتعمد للنزاع الجاري في اليمن، على المستويين، الإعلامي والسياسي، على محاولة فهم منطق صناع القرار في صياغة الأولويات والأجندة الدولية.
بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى قبل نهاية الحرب البادرة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأميركية في بداية تسعينيات القرن الماضي، كان العالم يرزح تحت رحمة القوة العسكرية الهائلة التي امتلكها القطبان، الشرقي والغربي. وبناءً عليها، كان المعسكران، بنظامي الحكم السياسي المختلف (الاشتراكي والرأسمالي)، يصوغان العالم ويجبرانه على التعايش مع أولوياتهما السياسية والاقتصادية، كما أنهما كانا يفرضان على بقية الدول، الصغيرة مساحةً وسكاناً، وبالتالي الأقل تأثيراً، اختيار دعم أحد القطبين. وفي المقابل، يحصل الداعمون على الحماية العسكرية والتمويل الاقتصادي.
لكن، منذ انتهاء الحرب البادرة بدون انفجار نزاع عسكري حتمي، كما تنبأ مفكّرون كثيرون، ورجوح كفة أتباع المذهب الواقعي في دراسات العلاقات الدولية والذين يؤمنون بأهمية وجود دولة عظمى أحادية مركزية، تفرض ولو نسبياً إرادتها على الكل. وبولادة النظام الرأسمالي الأميركي، كالدولة المهيمنة الوحيده التي منحت الضمانة، وفقاً للواقعيين، بعدم غرق العالم في الفوضى المطلقة. لذلك، سعى المفكرون والباحثون/ات، بعد الحرب الباردة، إلى شرح المنطق الذي يستدعي الدول لإنتقاء إيلاء بعض الأزمات الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية والنزاعات كل الاهتمام اللازم، وتجاهل بعض الأزمات الأخرى. لذلك، جاءت مدرسة كوبنهاغن للدراسات الأمنية في تسعينيات القرن الماضي، لتقدّم للعالم مفهوم “الأمننة”، في محاولة لشرح منطق الأولويات في الأجندة الدولية.
من الصعب إيجاد إجابة واحدة شافية لأسباب التجاهل الدولي للحرب الجارية في اليمن، عدا عن إهمال السياسيين الإشارة إلى الأزمات الإنسانية التي خلفتها، وما زالت تخلفها الحرب على الأفراد، وعلى البنية التحتية. لكن، ثمة في نظرية “الأمننة” القدرة على تفسير الموقف الدولي جزئياً. ظهر هذا المفهوم وانتشر في أعقاب نهاية الحرب الباردة، ليوسّع من المفهوم التقليدي الأمني الذي ارتبط عقوداً بالقوة العسكرية. أشركت “الأمننة” قطاعاتٍ أخرى (السياسة، والاقتصاد، والمجتمع والبيئة وحتى الصحة أحياناً) كجزء من المفهوم الأمني، واعتبرت وفقاً لأستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن، باري بوزان، أن أيّ تهديدٍ يُمس، أو يُستشعر، في هذه المجالات، وفقاً لمعايير محدّدة، كافية بأن تحولها إلى قضية أمنية.
فتح هذا المنظور الأبواب للمطالبة “بأمننة” قضايا مختلفة، حتى تحظى باهتمام وعلاج كامل وفوري. تنوعت هذه القضايا، على سبيل المثال، بين أمننة مرض/ مرضى الإيدز إلى أمننة اندماج المقاتلين السابقين في مرحلة ما بعد النزاعات. لا يُنظر إلى الحرب التي تدور في اليمن دولياً من منظور حربٍ تستدعي “أمننة”، أو التعامل معها بوصفها قضيةً أمنية، تهدّد الأمن الدولي. لم تفرغ الأزمة في اليمن حتى الآن إرهابيين، يهدّدون المصالح الغربية في عقر ديارهم. خلف الصراع في اليمن الآلاف من المشتتين والمشردين في الداخل، لكن الجغرافيا اليمنية لا تفسح المجال لتوافد فوج من اللاجئين الهاربين من الحرب، لعبور الحدود الأمنية، واللجوء إلى القارة الأوروبية أو الأميركية.
غياب هذه الوقائع يجعل من النزاع اليمني قضيةً لا تستدعي “الأمننة”. وبالتالي، لا تحظى بالاهتمام الفعلي، على عكس النزاع في سورية حالياً. ووفقاً لقراءة مفهوم الأمننة، ستكون الحرب في اليمن مغيبةً عن الأجندة الدولية الطارئة، حتى تحل كوارث أمنية مختومة بختم الحرب اليمنية؛ حينها فقط سيُعاد ترتيب الأوراق، وستعقد الجلسات الدولية الطارئة لإيجاد مخرج فوري من الحرب، وتجنب مخرجاتها العابرة للقارات، والمستفيدة من تسهيلات العولمة. لكن الخوف، ثم الخوف، أن يحدث ذلك بعد فوات الأوان.
*العربي الجديد