يَعودُ استعمالُ مصطلح “الحرب الهجينة” Hybride warfare إلى بداية العُشرية الأولى من الألفية الجديدة، وتحديداً في أعقاب حرب أفغانستان، وبداية الحرب في العراق، على إثر سقوط بغداد (2002 ـ 2003) والشروع في تنفيذ المخطط الأمريكي في بلاد الرافدين. ففي مقال للضابط في مُشاة البحرية الأمريكية “فرانك هوفمان يَعودُ استعمالُ مصطلح “الحرب الهجينة” Hybride warfare إلى بداية العُشرية الأولى من الألفية الجديدة، وتحديداً في أعقاب حرب أفغانستان، وبداية الحرب في العراق، على إثر سقوط بغداد (2002 ـ 2003) والشروع في تنفيذ المخطط الأمريكي في بلاد الرافدين. ففي مقال للضابط في مُشاة البحرية الأمريكية “فرانك هوفمان”، صادر عن “معهد بوتوماك للدراسات السياسية العامة” سنة 2007، حُدد معنى “الحرب الهجينة” على أنها “سلسلة من الطرق المختلفة للحرب بما في ذلك القدرات التقليدية والتكتيكات والمعلومات غير النظامية، والأعمال الإرهابية بما فيها العنف والإكراه العشوائي والفوضى الإجرامية. والحقيقة أن عناصر كثيرة من هذا التعريف تنطبق على سلسلة الحروب الجارية منذ سنوات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفي أوكرانيا، وقبل هذا يمكن إدراج الحرب في أفغانستان، وأجزاء من الحرب في باكستان ضمن منظومة الحروب الهجينة.
ليس ثمة شك أن في مُسمّى “الحرب الهجينة” بعض الغموض والالتباس، وأنه من المصطلحات التي دخلت دائرة التداول الدولي دون حدّ معقول من التوافق حول معناه ومدلوله. لكن، بالمقابل، هناك إجماع على أن للحروب الهجينة كُلفةً بشريةً وماديةً عاليةً، وأن استمرارها يُرهق الكيانات السياسية، ويُضعف مجتمعاتها، ويفكك لحمتها الداخلية، ويحول الكثير منها، إن لم نقل معظمها، إلى دول فاشلة لا أمل في شفائها. لنتأمل ما جرى في أفغانستان مدة أكثر من عقدين، وما حصل في جارتها باكستان وإن بدرجة أقل، وما هو جار، منذ سنوات، في العراق، وسوريا، واليمن، وإلى حد ما في لبنان.
ففي أوكرانيا، على سبيل المثال، لم تُعتمد الحرب التقليدية كما كان معروفاً في السابق، بل تم اللجوء إلى وسائل وتكتيكات ممزوجة بما هو معروف في الحروب التقليدية، وما تمت ممارستُه بشكل حديث في الحروب الجديدة، التدريبات الخاطفة والكموندوس السريين والصواريخ المهربة. أما في العراق وسوريا، فقد استعمل “تنظيم الدولة الإسلامية داعش”، الكثير من الأساليب الحربية غير مألوفة تماما لدى الجيوش النظامية، من قبيل تجميع القوات لاحتلال الأراضي والتوطُّنِ فيها، وخطف الرهائن والمزايدة حول إطلاقهم، أو اللجوء إلى الترهيب بإعدامهم، بل ذهب “الداعشيون” بعيدا في البشاعة، عبر التكنيل بالجثث وإحراق الناس علناً، كما حصل للطيار الأردني في العام الماضي، ناهيك عن الاجتهاد في استغلال الإمكانيات التي تتيحها الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي من أجل التسويق لصورة التنظيم والتأثير في نفوس الناس وعقولهم. ولعل الملامح العامة نفسها نلمسها في التنظيمات الإرهابية في كل من دولتي مالي ونيجيريا.
تكمن القيمة المتزايدة لتداول مصطلح “الحرب الهجينة”، على غموضه وعدم دقة معناه، في المآزق التي باتت تعاني منها الجيوش النظامية في العالم، وهي تحارب زعماء “الحروب الهجينة وتنظيماتهم”. فكيف نتصور مثلا تحالفاً دوليا مكونا من أكثر من قوة عسكرية لمناهضة تنظيم إرهابي من حجم “داعش” في العراق وسوريا، أو “بوكو حرام” في نيجيريا، أو تنظيم الدولة الإسلامية في المغرب؟؟
وكيف نفهم تصريحات هذه التحالف العسكرية الدولية ونقتنع بمضامينها، وهي ما انفكت تكرر عدم نجاعة استراتيجيتها في القضاء على مصادر الحروب الهجينة؟ أليست ثمة حلقات مفقودة في عدم فهم هذه التصريحات، ولا الاقتناع بمحتوياتها؟؟ لا شك أن هناك بياضات في خطابات القوى المتحالفة من أجل القضاء على مكامن الحروب الهجينة، وأن معرفتها وإدراك أبعادها ومقاصدها من شأنها المساعدة على فهم لماذا لم تعط عمليات الدول المتحالفة ثمارها في مقاومة الحروب الهجينة والقضاء عليها. غير أنه بعد هذا وذاك، لا يستطيع المرء سوى أن يعترف ويُقرّ بأن “الحروب الهجيمة” فرضت نفسها، واستطاعت إلى حد بعيد استنزاف الكثير من القدرات المالية والبشرية، كان من الممكن توظيفها في سد فجوات الكثير من المناطق في ميادين التنمية، والمعرفة، واحترام آدمية الإنسان وكرامته.. إنه لرقم مهول أن نسمع على لسان بعض وسائل الإعلام أن كلفة الحرب الجارية اليوم في اليمن ستكون بما مقداره سبعمائة مليار دولار.. نعم سبعمائة مليار دولار.
ليتصور معي القارئ الكريم لو حصل تجنب الحرب في اليمن، وتمّ توجيه نصف هذه الكُلفة إلى إطلاق مشاريع النماء في هذا البلد الذي أفقرته نخبته الحاكِمة طوال أكثر من ثلاثة عقود، لو تحقق ذلك لأصبح “اليمن فعلا بلدا سعيدا”.. أما الآن وعلى فرض توقف الحرب وزوال دمارها، سيحتاج “اليمن الحزين” إلى عقود من العمل لاسترجاع عافيته والنهوض مجددا من كبوته. والأمر ينفسه يُقال عن العراق، الذي دُمّرت دولتُه وبنيانه الحضاري، وأرجِع بشكل عزّ نظيرُه إلى الوراء، وزُرِعت في نسيجه الاجتماعي سُموم الفُرقة الطائفية والعرقية والجهوية، وربما القادم أفظع، وتسير سوريا بخطى حثيثة على منواله، وإلى جانب هذه الكوكبة من الدول التي فككت أواصرها آفة الحروب الهجينة، تنتظر ليبيا مصيرها هي الأخرى، ولا نعرف على وجه اليقين إلى أين ستنتقل رياح هذه الحروب، وعلى أي بلد عربي سيكون الدور القادم؟ ومع ذلك، لابد من الاعتراف أن لنظمنا السياسية العربية، وطبيعة الثقافة السياسية لمجتمعاتنا بعض المسؤوليات في انتشار آفة الحرب الهجينة في منطقتنا، وإن صُدِّرت لها من أفغانستان وباكستان أولا، ولقيت رعاية بثها وتوطينها من قبل الخارج في ربوعها لاحقاً. وبذلك، تمتلك بلدانُنا إمكانيات القضاء على هذه الآفة إن عزمت على ذلك، وتسلحت بما يكفي من الشجاعة على الثورة على الذات، وفتح آفاق جديدة لبناء الناس والأوطان على أسس ثقافية جديدة.
نقلا عن عربي 21