كتابات خاصة

الليد الأفريقي (2-2)

معاذ المقطري

في المطعم الأثيوبي الذي تملكه الأثيبوبية سارة في صنعاء، كونت جزء مهما من صداقاتي التي جمعتني بلاجئين ومقيمين أثيوبيين وإريتريين ومختلطين أفارقة.
في المطعم الأثيوبي الذي تملكه الأثيبوبية سارة في صنعاء، كونت جزء مهما من صداقاتي التي جمعتني بلاجئين ومقيمين أثيوبيين وإريتريين ومختلطين أفارقة.
صداقات حميمة كان علي تذكرها وتفقدها خلال الأيام الأخيرة، على أن الأوضاع لم تعد موآتيه، كما كانت قبل عامين على الأقل!

أولا وقبل كل شيء، شوشت الحرب أذهاننا بقدر ما شوهت مساحات وآسعة من جمالنا الروحي، من حيث لا ندري!!

حتى أن المعلمة سارة نفسها لم تعد تقوى على رفع صوت النغم الموسيقي الذي ألفته مصحوبا بروائح البنة الأثيوبية المتصاعدة من جمنتها!.. فالسيدة الناضجة التي بلغت الخمسين وربما أكثر من العمر، تبدو بحالة توتر دائم كما لو ذاقت شيئا من جحيم الحرب التي أفقدتها زبائنها الأكثر رقيا كما تقول.

كل ما يهمها اليوم هو أنك إن زرتها يا ليد لا تتسبب لها بالمتاعب والمشاكل!!..فالعناصر الأمنية الجديدة لم تألف سارة التعامل معها بعد، كما أن مزاجها متقلب.

في أحسن الأحوال، يتعامل الأمنيون الجدد مع مطعمها المخصص لوجبات (الزجني والطست والبنة) كمكان مشبوه، في وضع بات مخنوقا ومليء بالصدمات لاسيما بعد أن سقطت صنعاء بأيدي الإنقلابيين الحوثيين!

يصعب تخيل وضع سارة ضمن مشهد كامل لما آلت إليه أوضاع اللآجئين الأفارقة في صنعاء وغيرها من البلاد، أقل ما يمكن وصفه هو أنها تتوجس خيفة من الحديث معك..

قبل عامين، كانت السيدة البارزة في الجاليا الأثيوبية قد حدثتني عن قلة قليلة من اليمنيين الذين يتمتعون بالثقافة والإنفتاح بحيث لا يمانعون من الزواج  بفتيات أثيوبيات أو “مولدات”.. نصف اثيوبيات مثلا!

قالت ذلك وقد مر عليها وقت طويل لم تشاهد فيه بناء علاقات حية كالتي تكونت منها عائلات يمنية بدم نصفه أثيوبي.

لقد تنامت خلال الخمسة العقود الأخيرة نزعة عدوانية ضد ما يعرف “بالمولدين” وهي العائلات اليمنية التي تكونت في أثيوبيا والصومال وعادت أكثر تعليما ومهارة وتصدرت الصفوف الأمامية في مسيرة النضال الوطني وصناعة النهضة.

ما بالك يا ليد وقد صرنا اليمنيين قبائل تقاتل قبائل وكتائب تقاتل كتائب، فيما يمنك الكبير يتشرذم  جهويا ومناطقيا ومذهبيا يوم بعد يوم.

حيال وضع قاتم كهذا، دعني أفر بك لاجئا إلى الزمن  الجميل.. زمن  الوصل بأفريقيا.. يوم كان اليمن أقرب لأفريقيا من دول الجزيرة والخليج.

 فعلى عكس ما تعانيه سارة وجاليتها الأثيوبية وسائر الافارقة في اليمن، فلا زال اليمنيين في أثيوبيا (أديس، دردوا، وهرار) يتصدرون حركة أسواق الجملة والمقاولات، ويملكون الكثير من المحال التجارية والمطاعم وأسواق الخضار وعربات الاجرة.

وتؤكد سارة بأن 90% من الزيجات بين يمنيين وأثيوبيات أو العكس حدثت في أثيوبيا وليس اليمن، لكنها تقلصت بعد أن أطاح الشيوعيون، بأمبراطور أثيوبيا “هيلاسي اللاسي”، بداية سبعينات القرن الماضي.

 كان هيلاسي اللاسي ملكا ليبراليا يشبه كثيرا شاه إيران، الأمر الذي جعل أثيوبيا ملاذا لليمنيين الفارين من الفقر والجوع والمرض وسطوة نظام الجباية، إبان حكم آل حميد الدين.

حينها كان الإنجليز والفرنسيون والطليان يتقاسمون السيطرة الإستعمارية لبلدان القرن الافريقي، لدرجة أن مهاجرين يمنيين قاتلوا بعضهم البعض تبعا لنوع المستعمر الذي انخرطوا في جبهته القتالية في مواجهة المستعمر الآخر إبان الحربين العالميتين.

تجمد زمن الوصل بأفريقيا بعد إنقطاع رحلات اليمنيين الاقتصادية الواسعة إلى القرن الإفريقي مع بداية السبعينات، إذ كانت شعوب تلك البلدان قد تحررت من الاستعمار البريطاني والفرنسي والطلياني، وساد معظمها أنظمة اشتراكية.

وأدت سياسة التأميم في أثيوبيا إلى عودة التجار اليمنيين لشمال اليمن وذاب من تبقى منهم ضمن النسيج الإجتماعي الأثيوبي الذي كان يشمل إريتريا وجزء من الصومال أيضا.

وفي كينيا، يشكل التجار اليمنيون القادم أغلبهم من الحجرية وحضرموت، رؤوس أموال تجارية كبيرة، وهم من يشكل ذلك اللوبي الذي يقرر من يفوز بمنصب عمدة العاصمة نيروبي!

وفي جيبوتي، يشكل المهاجرون اليمنيون عصب اقتصاد الدولة، بقدر ما شغلوا المقاعد الأولى للغرف التجارية والصناعية هناك.

مع ثمة حضور لهم في التكوينات السيادية للدولة بما في ذلك الجيش والخارجية والأمن والجمعية الوطنية (البرلمان).

وفي الصومال ظل اليمنيون الذين ولدوا هناك لاعبا أساسيا في تحولات الدولة وجزء أساسي في تكوينات حكوماتها وبرلماناتها المتعاقبة رغم تقلص حضورهم هذا في ظل جهود المصالحة الصومالية.

مفارقات وقف أمامها أستاذ الحركة الوطنية اليمنية، أحمد محمد نعمان، الذي أعتبر أوائل المهاجرين إلى القرن الافريقي وعدن صناع النهضة اليمنية الحديثة.

يقول نعمان في مقالة له نشرتها مجلة “الحكمة” في مطلع السبعينات إن “رواد النهضة اليمنية الحديثة هم  الذين غاصوا في كل بحر، واحترفوا المهن في كل أرض، وشربوا النبيذ من كل كرم، حتى صارت كل الرياح وكل الشموس وكل النجوم تعرفهم”.

هم الليد بكل تجلياته يا ليد..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى