كل عام وأنتِ بخير يا غزة
انقضى عامٌ وجاء عامٌ آخر..
ولا تزال أوضاع البلد والمنطقة والإقليم والعالم كما هي، إن لم نقل أنها تزداد سوءاً، وتواصل السير نحو الهاوية في شتى المجالات.
بيد أن أهم ما اختتم به العام الماضي شهوره وأيامه كانت (غزة)، وهي ذاتها (غزة)، تبدو مع إطلالة العام الجديد وهي الأهم والأجمل والأروع في سِفر المقاومة والشجاعة والتضحية، كانت وستبقى أيقونة الدفاع عن الأرض المباركة، عن القدس والأقصى وفلسطين، عن الحرية وسْط أكوام العبيد، وعن الكرامة في ركام الارتهان والذل والمهانة.
(غزة) ودّعت هذا العام أكثر من عشرين ألف شهيد من خيرة أبنائها، بذلوا أرواحهم دفاعاً عن الحق في الحياة لأمةٍ آثرت أن تحيا ميتة، فمضى الشهداء إلى سماء الخلود أحياءً عند ربهم يرزقون. بعدما دافعوا عن حقهم في البقاء على الأرض التي نبتوا فيها حُباً لا ينضب، وطلعوا منها قناديل ضوء لا يخبو، وسيوف عزةٍ ليس للصدأ فيها نصيب.
لقد كان عام 2023 عام (غزة) بامتياز.
لقد كان العام الماضي، عام الأقصى وطوفانه، فلسطين وقضيتها، غزة وأبطالها، التضحية ورموزها.
لقد كان عام السابع من أكتوبر (تشرين)، هذا هو أجمل أيامه، مثلما كان شقيقه السادس من أكتوبر أجمل الأيام قبل خمسين سنة.
إنه عام الملثم والدحدوح والدويري والياسين والكتائب والمسافة (صِفْر).
لقد كان عام مستشفى الشفاء وجامعة (غزة) وجباليا والشجاعية وخان يونس والشهيد الساجد.
عام الشهداء الذين أحيت دماؤهم الطاهرة ملايين الضمائر الغافية..
ولقد كان عام الجرحى الذين عالجت جراحُهم النَّدية جرحَ الأمة النازف منذ سبعين عاماً وأكثر.
وعام الأطفال الأبرار الذين رفرفت أطيافهم في سماء (غزة)،
عام النوارس التي لم تغادر فضاءات (غزة).
لقد كان عام يوسف ذو السنوات السبع، بشعره الكيرلي الحلو، الذي كان ينتظر أن تمده أمه بما يسدُّ به رمقه ففاجأته غارة صهيونية غادرة، أجبرته على مغادرة أرض (غزة) وهو جائع.
لقد كان عام الشيخ الصابر الذي فارق حفيدته الحبيبة قائلاً عنها: روح الروح..
وفي (غزة) وحدها يودّع الآباء أبناءهم بدمعة حزن وابتسامة رضا، بقصةٍ جميلة وفي القلب غصة الحزن النبيل.
كما في (غزة) وحدها يكتب الأطفال أسماءهم استعداداً للشهادة، فهم يعرفون أنهم سيصبحون في أية لحظة شهداء وشاهدين، شهداء في محراب الكرامة، وشاهدين على همجية العدو وبشاعة داعميه وبربرية أدعياء المدنية والتقدم والحضارة.
وفي (غزة) أيضاً تودّع الأم أولادها دون أن تدرك أو يدركون أنها ستغادر قبلهم..
ففي (غزة) يودع الكلُّ الجميعَ بصبر واحتسابٍ ويقينٍ راسخٍ أن الحق سوف ينتصر، طال الزمان أن قَصُر.
في (غزة)، كما في كل فلسطين، ينبت الثوار أشجار صنوبر وارفة الظلال، مثل التين والزيتون، مثل الزهر ومثل البحر، مثل النهر ومثل القمح. وسيبقون ما بقيت الأرض، ثابتون كالصخر وصامدون كالشجر.
يولدون من رحم الأرض الطيبة لكنهم لا يغادرونها.. بل ينزرعون فيها فيصبحون جزءاً منها، بعدما صارت جزءاً منهم.. وشعارهم: لن نخرج منها أبداً، لأن أجدادهم الجبارين هم الذين أجبروا الغزاة التائهين يوماً على الصراخ من وراء الصحراء: “لن ندخلها أبداً ما داموا فيها”.
لقد كان.. وسيبقى، عام فلسطين والنضال الذي لا يتوقف إلا بتحرير الأرض – كل الأرض- ودحر المحتلين.
ويسألونك متى هو؟ قل عسى أن يكون قريباً.