الذات وسياسة القطيع
هل يدرك الشخص المزايد على الاخرين في قضايا وطنية، خطورة تصرفاته، واحتمال كبير ان يكون عبدا لفكرة خاطئة، وتبني مشروع ليس بالضرورة ان يمثل تطلعات الناس، وانه مجرد فرد او جماعة لا يمكن ان تفرض على الاخرين ما لا يرغبون، كلا ينظر بمعيار قيمه ومبادئه الوطنية والإنسانية والأخلاقية.
عندما تثور الشعوب لتغيير أمر ألَمَّ بها وأصابها بموْجِع، يحدث اضطراب في ميزان التفاهم حول أفكار العقول الأربعة وهي (العقل الجمعي الشعبوي، والعقل الجمعي النخبوي، والعقل الجمعي السلطوي، ويتداخل في كل هذه العقول العقل الفردي) وهي التي تحكم شعرة ميزان كفتي الرضا او السخط والهدوء او الغضب، فيختلط الحق المستلب والباطل الشائع، وما يحضر من كذب وتدليس امام ما يغيب من صدق وتفحيص.
فالعقل الجمعي قد يكون تأثيره على الأمم والمجتمعات سلبيا وايجابيا، وأحيانا كثيره يصنع من مناصريه قطيع، يديرهم راعي لهدف في نفسه، هنا يستلب العقل الفردي لصالح العقل الجمعي بظنه ان جماعته في الطريق الصحيح، هي ظاهرة نفسيه للتابع والمتبوع، كما وصفها «غوستاف لوبون» الطبيبُ والمؤرخُ الفرنسيُّ وأحدُ مؤسسي «علم النفس الاجتماعي» بأنه: ((الاستجابةُ غيرُ العقلانية لِمَا تردِّدُه الجماعةُ)).
ما يجعل استغلال العقل الفردي لصالح الجماعة (العقل الجمعي)، هو استغلال حاجة الناس، استغلال مصابهم الجلل، فتطلق الأفكار التي تدير مدارك الاذهان من مفاهيم ومقاييس وقناعات تحقق الاستغلال، تتحول للتطبيق كسلوك وعادات وتقاليد واعراف، بالتقادم تصير موروث سلوكي انطبع به الشعور العام، ويلتزم به الإحساس الجمعي، يبقى صعوبة مغادرته او التجاوز عليه.
التابع الاعمى للجماعة أنكرتْهُ الشرائعُ السماوية، فالمطَّلِعُ على القرآن الكريم يقرأ فيه قولَه تعالى عن عبادة الأصنام والتقليد الأعمى: قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين (صدق الله العظيم).
ولم تكن الكثرةُ يوماً مقياساً للصواب، والجماهيرُ دليلاً للحقّ، فنرى الشرائعَ السماويةَ تذمُّ الكثرة، فنقرأ في القرآن الكريم: وما يتَّبعُ أكثرُهُمْ إلا ظَنّاً إنَّ الظنَّ لا يغني من الحقّ شيئاً، وأكثرُهُم للحقّ كارهون، ولقد ضلَّ قبلهم أكثرُ الأولين، وإنْ تُطع أكثر مَنْ في الأرض يضلوك عن سبيل الله، إن يتبعون إلا الظَّنَّ وإن هم إلا يخرصون، ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تذمُّ «سياسة القطيع»، بل على العكس تماماً امتدح القرآنُ الكريم القلَّةَ الواعية العاقلة التي لا تنساق وراء الجماهير دون تفكير، فنقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى : الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليلٌ ما هم، وقليلٌ من عبادي الشكور، ثلةٌ من الأولين وقليل من الآخرين.
يبقى العقل الجمعي كما وصفه عالم الاجتماع (إميل دور كيم) (اقوى من حرية الفرد ويتنافى معها بل يتجاوزها أو ينفيها، مما يجعل سلوك الناس سلوكا اجباريا)
وهي العبودية للجماعة، العبودية للفكر الطائفي او المناطقي او الايدلوجي، بكل ما تحمله تلك النعرات من ارث عقيم وبالي وسقيم، مما تساهم في تشكل القطيع والراعي الصنم، فنرى امامنا مشاهد مثيرة للسخرية، كموكب الزعيم، وحراسة الزعيم، والناس تعاني وتفتقد للأمن الغذائي والأمان.
ولهذا الا غرابة في انتاج مآسينا، لان العقل الجمعي يحمل ارث تلك الماسي، ويبقى يحشد ويحرض للثأر والانتقام، والتغيير يبدأ من تغيير الذات ثم يمتد لتغيير الجماعة، ثم لتغيير المجتمع، والذات هي أساس الجماعة واساس المجتمع، تبدأ عملية البناء من الذات، وتغيير الفكر من الذات، والتحول يحتاج للإنسان المؤهل والواعي والقادر على ان يستوعب فكرة التغيير والتحول، فالذات هي الأصل.