هناك في أعلى الجبل.. تبدو الحياة جميلة وبسيطة وسهلة، على الرغم من صعوبتها؛ لا أحد يشعر بالشقاء الذي يعانيه لأن لا أحد حينها قد جرب ترف المدينة التي تبعث في الانسان روح الكسل. الفقد في حد ذاته هو أسوأ ما قد يتعرض له الإنسان، خاصة اذا كان ذاك الشخص هو والدك .. في الواقع انني لم ادرك يوما باني سأمسك القلم كي اكتب عنك.. لطالما آمنت بانه من الصعب فراقك.. ولطالما دربت نفسي وذاتي على مواجهة ذلك القدر الذي لا يؤجل.. فليس هناك ما هو أصعب من الكتابة في حضرة البكاء..
هناك في أعلى الجبل.. تبدو الحياة جميلة وبسيطة وسهلة، على الرغم من صعوبتها؛ لا أحد يشعر بالشقاء الذي يعانيه لأن لا أحد حينها قد جرب ترف المدينة التي تبعث في الانسان روح الكسل.. ولان الحياه تبدو أجمل ببساطتها وتنوعها واندماج الأرض “البيئة” مع روح الانسان حتى تكاد الأرض هي المقدسة وهي ما يجب أن يعاني من أجلها الجميع. فالأرض في الريف هي الوطن بالنسبة للتعريف الحضري لمن هم في المدينة.. تختلف الاسماء لكن تظل الروح التواقة إلى مسقط راسك نفسها لا تتبدل ولا تتغير بتبادل الأشياء وتغيراتها.
ما لا يعلمه الكثير أن الأرض بإمكانها أن تحدد كيفية عيشك للحياة، شخصيتك. اندفاعك. توجهك لا المدرسة ولا الام ولا الدين كما تعلمنا ويتعلم الكثير.
عاش الجميع من أجل الأرض ووجد الدين من أجل تسوية الحياة على الأرض والام والمدرسة يرتبطان بالأرض، فالبيئة هي الجامع لكل شيء، وما عداهما يظل فرع وارتباط..
هناك في قريتي الاباره، كانت البيئة تجمعنا، وكما هي جميلة، فالروح جميلة أيضا، كحال كل البقاع الجميلة أيضا، شاءت الأيام أن يتعرف الناس على شاب لم يبلغ السابعة عشرة من عمره.. قبلها بعام كان قد توفي ابوه، وفي نفس العام كان عمه قد استشهد، ولهذا وجد نفسه أمام مفترق صعب. فالشاب الأنيق، ذو العيون الزرقاء والشعر الطويل أمامه تركة طويلة وإرث صعب، عليه أن يواجههما معا، واضعا على كتفه هموم امه الأرملة واخوه الأصغر وأبناء عمه الشهيد أيضا.
لحسن حظ ذلك الشاب، أن البيئة كانت قد صقلته جيدا، فغرست فيه معاني الحب والوفاء والتعاون والقوة، كان الجبل قد ترك فيه قوته وجبروته، واستعار من النبات الجميل طيب قلبه وصدقه، فشكل منهم منهجا مضى على دربه إلى حين استشهاده، وسيمضى على دربه بقية أهل الجبل، فهو الملهم، وهو الباعث على الثقة.
إن من اتحدث عن هو الشهيد الاب أحمد يحيى الاباره، الذي سأحاول قدر الامكان أن اسطر فيه ما امكن لتظل سيرته العطرة منهجا لأجيال نعلمها ونتعلم منها.
لقد كان الوالد الشهيد انسانا يؤمن ايمانا كبيرا بالتعليم، وانه الملاذ الوحيد لتحرير شعبنا من الجهل والعبودية ومعرفة طريقه نحو التطور والتقدم، ايمانا منه بأن الأمة التي تقرأ هي الوحيدة القادرة على التطور لذلك فقد عكف والدي على تدريسنا والاهتمام بذلك، وبذل كل جهده نحو التعليم وكان يردد دائما: أنا لن اورث لكم شيء، سأورثكم التعليم، ومن تعلم فلا خوف عليه، فسوف يصنع نفسه.
كان الوالد الشهيد دائما ما يتعامل معنا كأصدقاء، وليس كأب يفرض شروطه عليك، وانه يجب عليك التقيد، حيث كان يؤمن بان الضرب والعنف لا يصنع الانسان الناجح، بل انه يخلق انسانا معقدا من الوالدين والمجتمع، وأن ظروف تأهيل الانسان الناجح.. هو أن يشعر بانه حر وغير مقيد، وأن لديه مساحة واسعه للتعبير عن رأية سواء الذكور أو الاناث.
مرت الأيام وكان أبي يوميا يركز فيها على التعليم إلى أن شاءت الأقدار أن تنهي مسيرة هذا القائد الفذ، عميد الشهداء ملهم الحرية أحمد الاباره عن طريق غارة خاطئة لدول التحالف لتنهي مسيرة قائد كان يطمح بإخراج اليمن من براثن الجهل والتخلف إلى مصاف الدول المتقدمة..
اعلم انك اخبرتنا مرارا بان لا نحزن عند فراقك، بل يجب علينا أن نفرح، ايمانا منك بان لا شيء يستحق البكاء.. وأن الحياة لا تستحق أن تعاش إذا لم تترك فيها بصمة.. لقد ترددت كثيرا هل اكتب عنك كثيرا ايمانا مني بان الكتابة عنك ترغم اللغة إلى ايجاد مفردات اخرى جميلة تعبر عنك فاللغة تقف عاجزة أمام وصفك والدنا الحبيب.
وبما أن الذكرى هي الإعياء النفسي الذي يصيبنا حين ننظر إلى الأماكن والأشياء المتعلقة بذكرى اوجعتنا يوما، إلا أن تذكر بعض لحظاتها قد تكون جميلة اذا ما أدركنا أنها بالأساس شفاء من اعتلال يصيب الروح، مع تراكم الضغوط والتيه في دهاليز الحياة والتزاماتها المتعددة؛ ولذلك احب أن اشير إلى حوار جمعني بوالدي قبل حادثه استشهاده حيث قلت له: ايش اللي يجعلك متفائل في قتال الحوثيين؟
قال ابي: في معارك الشرف لا يمكن أن تكون متشائما، تفاءل وإن خذلك الآخرون..
أنا اسس لجيل لا تكون أنت فيه مواطن درجة ثانية، لا يكون فبه سيد وعبد.. لا يكون فيه شريفة وعاهرة.. وسأبذل روحي لذلك.
قبل ثلاثة أيام من مجزرة العبر الأليمة.. جمعنا والدي نحن والمرافقين الذين استشهدوا جميعا في فترة سحور رمضان، وألقى فينا كلمة كان مضمونها باختصار: جمعتكم اليوم من شان اخبركم أنني لم اكن اعتقد يوما بانني سأضطر إلى حمل السلاح، واناديكم إلى حمله وأنا الشخص الذي اؤمن بقداسة السلمية وقوة العلم لولا الظرف الراهن الذي يحاول اجبارك أن تعيش كعبد.. طالما شجعتكم على التعليم، ولقد خرج من أكنافكم 3 دكاترة والكثير من الجامعيين وما زلت احثكم على العلم إلى آخر لحظة.. العلم والتعليم هو القوة، والجهل ضعف؛ انشروا قيمة حب التعليم حتى بين أقرانكم المجندين، اخبروهم أن التجنيد لا يقف عائقا أمام اكمال الدراسة..
ثانيا، اجعلوا من محبة الناس قيمتكم الاولى.. ولا تغتروا إلى المال، فالمال لا يجلب لك إلا أصدقاء المصلحة.. عايشوا الناس، اشعروا بمعاناتهم.. تلمسوا احتياجاتهم.. وسيكونون معكم.
الشيب الآن في رؤوسنا، ولم يتبقى لنا من العمر إلا قليل، لأننا نناضل، ولن أعود إلا فاتحا صنعاء أو أموت، لكن هي مناشدة لكم بان تكونوا ذو أخلاق حسنه مع الناس، وبذلك فقط ستصنع من نفسك انسان ذو شان..