قد يكون من الغريب على سكان الدول العربية الحديث عن أهمية البحر الأحمر، فعدد هائل من العرب يعيشون في دول مطلة على هذا البحر الذي لطالما فاضت خيراته عليها. ولكن البحر الأحمر مؤخراً شهد هجمات تخريبية على حركة الملاحة فيه، وهو ما جعله محط أنظار الوسائل الإعلامية العالمية، لا سيما بعد إعلان عدد من الشركات إيقاف النقل عبره. فما هي الأهمية الاقتصادية للبحر الأحمر، وهل تقف هذه الأهمية عند الحركة التجارية فحسب؟
من ناحية التبادل التجاري فنحو 12 في المائة من التجارة العالمية البحرية تمر عبر البحر الأحمر، ونحو 40 في المائة من التبادل التجاري بين آسيا وأوروبا يمر عبره، ولا يستغرب أن تستثمر كل من السعودية ومصر في المناطق اللوجستية في البحر الأحمر لانتعاش هذا الممر التجاري في الوقت الحالي، ولكونه يشكل فرصاً مستقبلية واعدة. وخلال الأيام القليلة الماضية، وبسبب الأحداث الجارية هناك، أوقفت أربع شركات شحناتها كلياً أو جزئياً عبر البحر الأحمر حتى «يصبح الممر في البحر الأحمر آمناً»، حسب تعبيرها، وتشكل هذه الشركات مجتمعة نحو 53 في المائة من تجارة الحاويات عالمية، وقد يدفع هذا الإيقاف شركات أخرى لاتخاذ الإجراءات نفسها، سواء من ناقلات البضائع أو شركات ناقلات النفط. ويتفاوت أثر هذه الأزمة على الدول، حيث تتضرر مصر بشكل مباشر لكون إيرادات قناة السويس تشكل مصدراً رئيسياً لمدخولات مصر. في المقابل فإن إسرائيل لن تتضرر كثيراً لكونها لم تعتمد على ميناء إيلات بشكل رئيسي في تجارتها، حيث يمر نحو 5 في المائة من تجارتها عبر البحر الأحمر.
أما الآثار غير المباشرة فهي ما سيمس معظم العالم، فعندما أغلقت قناة السويس قبل 3 سنوات لمدة لم تزد على 6 أيام تأثرت سلاسل الإمداد بشكل آلم العالم، فاحتُجزت أكثر من 100 سفينة على كل جانب، وتوقف ما يقدر بنحو 10 مليارات دولار من تدفق التجارة يومياً. ولو تأثرت الملاحة في البحر الأحمر فسينجم عن ذلك تعطل لسلاسل الإمداد، وستُوجه التجارة البحرية عبر طرق أخرى أطول – كرأس الرجاء الصالح – مما يعني زيادة تكاليف النقل والتأمين. أما إذا امتدت الأخطار الحالية إلى بحر العرب، الذي تمر عبره نحو ثلث إمدادات النفط العالمية المنقولة بحراً، فإن التكاليف الاقتصادية ستكون أعلى بشكل كبير.
وبينما يشكل البحر الأحمر أهمية تجارية على النطاق الدولي بسبب كونه ممراً تجارياً مهماً، فإنه يشكل كذلك أهمية اقتصادية للدول المطلة عليه لا تقف عند الحركة التجارية فحسب. فهو يتمتع بموارد معدنية ثمينة، هذه الموارد لم تستكشف حتى الآن بشكل مكثف، وتشير الدراسات إلى أن أعماق البحر الأحمر تحتوي على معادن مثل الزنك، والنحاس، والفضة، والذهب. كما أن التنقيب عن النفط والغاز فيه لا يزال مستمراً، فقد اكتشفت السعودية كميات كبيرة من الغاز في البحر الأحمر عام 2019، كما أعلنت مصر هذا العام ولأول مرة عن بدء حفر عدد من الآبار للتنقيب عن النفط والغاز فيه.
والبحر الأحمر مميز ببيئته وطبيعته، ففيه نحو 300 نوع من الأسماك، وثري بشعابه المرجانية، وباختلاف طقسه من شماله إلى جنوبه، وهو ما جعله منفرداً من الناحية السياحية، ونتيجة لذلك كثرت المدن والمصائف السياحية في شمال البحر الأحمر من ناحية مصر مثل الغردقة ومرسى علم، كما أطلقت السعودية مشروعات ضخمة على شواطئه مثل مشروعي البحر الأحمر وأمالا اللذين يهدفان إلى إحياء السياحة في البحر الأحمر، إضافة إلى مدينة نيوم شمال البحر الأحمر.
البحر الأحمر مهم تاريخياً، لكن أهميته في ازدياد، فبيئته وطبيعته أهلاه لأن يصبح أحد أكبر الأماكن التي تُطور سياحياً في العالم، ويُتوقع بذلك أن يزداد المسافرون إليه. وموارده الطبيعية غير المستكشفة مكّنته من أن يصبح محل استثمار فريد من نوعه، لا سيما أن يشكل مزيجاً من الاستثمار بالموارد الطبيعية، والحفاظ على البيئة، أي أنه مثال على مستقبل الاستثمار المستدام بيئياً. وهو فوق ذلك ذو أهمية تجارية بالغة، ويكاد لا تخلو طريق لوجستية من البحر الأحمر أو موانئه، ولذلك فهو أرض خصبة للاستثمار اللوجستي، والاستثمارات الحالية خير دليل على ذلك. وبعد ذلك كله، فلا غرابة أن يلتفت العالم إلى البحر الأحمر بعد الهجمات الأخيرة ضد حركة الملاحة.
*نشر أولاً في صحيفة الشرق الأوسط