غير مصنففكر وثقافة

يوم رمضاني دافئ في كريتر عدن

محمد الجماعي

وانت خارج من صلاة العصر بمسجد العيدروس التاريخي ستفاجأ بسور كبير لمقبرة تسمى “مقبرة القطيع” تحتل مساحة شاسعة جدا من مدينة كريتر، كأنما يتزاحم الأموات مع الأحياء هنا على حجز أماكنهم إلى يوم القيامة التي ستبدأ مراسمها فعليا من فوهة هذه المدينة المزحومة أصلا، لدرجة أنها لا تسمح لأحد بأن يمد رجليه!!..
وانت خارج من صلاة العصر بمسجد العيدروس التاريخي ستفاجأ بسور كبير لمقبرة تسمى “مقبرة القطيع” تحتل مساحة شاسعة جدا من مدينة كريتر، كأنما يتزاحم الأموات مع الأحياء هنا على حجز أماكنهم إلى يوم القيامة التي ستبدأ مراسمها فعليا من فوهة هذه المدينة المزحومة أصلا، لدرجة أنها لا تسمح لأحد بأن يمد رجليه!!..
في يوم رمضاني بمدينة كريتر العتيقة يمكن لزائر ما، أن يكتشف روح المدينة عن كثب، وأن ينقل المشهد بين أحرف مقال، كهذا، فيه من العنت، ما يهز ثقة كاتب بقدرته على فعل ذلك كما ينبغي..

تخرج بعد صلاة العصر من مسجد العيدروس لتفاجأ بماراثوني سباق أحدهما “رياضي” بين الحواري في ملاعب كريتر، والآخر “قرآني” عبر مكبرات مساجد المدينة لمسابقات أعدت سلفا، وتجري خلال أيام الشهر تصفيات حسب فئات المصحف، وما بين هذا المسجد وذاك يمكنك سماع ألوان من المزامير القرآنية البديعة، هكذا علنا، عبر مكبرات الصوت، في مدينة مزدانة بمئات الجوامع، ويفترش أهلها في معظم “الحارات” موائد إفطار في الشوارع بهناءة وطيب نفس..

ستدخل إلى مسجد “الشيخ عبدالله” قبل أذان العشاء من إحدى بواباته الخلفية لأنه لحظتها سيكون قد امتلأ عن آخره، وساقيان نشيطان جدا يسريان بين الصفوف سريان النهر، وبأيديهما أكواب وأباريق يسقيان بمائها البارد جموع المصلين.. وقبلها كنت تظن أن تخمة إفطار عدني أو صحن “زربيان” باذخ قد يمنع أحدهم من المسابقة إلى هذا المكان..

قد يكون نهار رمضان في كريتر “غير متعاون” مع الصائمين بالقدر الكافي ليمنع عنهم حرارة الشمس، أو قيض الصيف، أو حتى لهيب أسعار البنزين والثلج والقات، وانقطاع الكهرباء؛ أي نعم.. لكن ما إن تقرع مكبرات مساجد المدينة وعلى رأسها مسجد “الشيخ عبدالله” لصلاة العشاء؛ حتى تهفو أرواح الصائمين إلى ما بين الأذان والإقامة بانتظار أجمل الابتهالات التي تذهب بالفؤاد إلى ما هو أبعد من لحظة خشوع أو إنابة..

في اللحظة التي ينتهي فيها الأذان سيكون صبية صغار قد انتشروا بأوراق خضراء يوزعونها على الذين لا يحفظون تلك الأدعية والابتهالات “مثلي”. حينها فقط تبدأ رحلة تحليق الأوابين. إذ سيلهج كل من في المسجد بصوت واحد: ربي عليك اعتمادي.. كمااااااا إليك استنادي.. ياااارب يا عالم بحالي، إليك وجهت الآمال.. الى آخر تلك الورقة الخضراء التي تعاد إلى مكانها جوار المنبر. ليبدأ بعد ذلك ماراثون قرآني آخر عبر مكبرات كل مساجد كريتر متمثلا في صلاة التراويح، وقبلها محاضرات ومواعظ الدعاة وأئمة مساجد: العسقلاني والرحاب والذهيبي وحامد والبيحاني وباكثير والشنقيطي والعراقي وجوهر وأبان بن عثمان بن عفان … الخ..

ستدهشك “مقبرة القطيع” واتساع مساحتها وكثرة قبورها، وسيجد الزائر نفسه مجبرا على دخولها لسبب بسيط هو قرب أول قبر من بوابتها المفتوحة على الدوام لساكني جبل العيدروس الذين يختصرون الطريق إلى بيوتهم مشيا على الأقدام من وسط آلاف القبور.

في الوهلة الأولى سيبدو أول قبر أمام البوابة كما لو أنه يعترض انسياب حركة الداخلين مضطرا إياهم للتوقف “هنيهة” بقدر ما يحتاجه الزائر للتعرف عليه وقراءة اسم صاحبه.. وهنا تكمن المفاجأة!!

“قبر الشاعر الكبير المرحوم “لطفي جعفر أمان” توفي عام 1980..

شخصيا تسمرت قدماي.. لطفي جعفر أمان، هذا الاسم الكبير هنا!! (سبق أن تكرر المشهد في صنعاء أمام قبر الشهيد محمد محمود الزبيري رحمه الله)..

سألت صديقي على الفور إن كان الفنان أحمد بن أحمد قاسم قد دفن هنا أيضا!! فقال لي: نعم، وزاد: “هذه المقبرة وطن الجميع”..

وأنا ابن اللواء الأخضر، ومَن مِن أبناء “إب” لم يسمع بأغنية: من العدين يا الله بريح جلاااب.. بصوت “صاحب إب” وكلمات صاحب عدن، اللذان يرقدان معا في هذا المقبرة، وكلاهما يؤرخ للآخر هنا..

سيقطع عدد من الأطفال حديثك مع قصائد الموتى الكبار، فيعرضون عليك أوعية ودلاء مملوءة بالماء مقابل عشرة أو عشرين ريالا، علك تريد أن تسقي بها عودا يابسا أو غصنا ظمآنا على قبر ما..

وكم وددت لو أني أستطيع شراء كل ما في عدن من ماء لأسقي كل قبور هذه الخارطة التي استطاعت أن تحتضن كل تلك الألوان والأجناس والأعراق..

“سقراط سعيد” كان أحد الذين أدهشوا الجميع في عدن كلها، وكان الوقت مساء، حين وجهت لي ثلاث دعوات في وقت واحد عبر واتساب وشفهيا، لحضور ثلاث فعاليات قرآنية، إحداها لمشروع الشفيع عبر مؤسسة التواصل، والثانية لجامعة القرآن الكريم، والثالثة لحضور حفل بمناسبة الذكرى الثلاثين لتأسيس مدرسة العيدروس لتحفيظ القرآن الكريم..

وكان “سقراط سعيد 12 عاما” هو دهشة الحفل وبهجته اذ استطاع في “عام الحرب” حفظ القرآن الكريم كاملا، وحين دعي لاستلام جائزته، فاجأ الجميع عندما اتجه إلى الميكرفون في مشهد مهيب أبكى الحاضرين، ثم وجه نداء لوالده وأستاذه للصعود الى المنصة واستلام الجائزة كونهما – ووالدته – أصحاب الفضل في ذلك..

في لحظة كهذه التي تتخرج فيها دفعات من حفاظ القرآن الكريم يصبح يقينا قاطعا، الجزم بأن أمن ومستقبل المدينة سيكون بخير.. بل ويتأكد وجوب تبني مدارس تحفيظ القرآن الملحقة بالمساجد كونها كفيلة بتخريج أفراد مستقيمين ومرتبطين وجدانيا وفكريا بمساجدهم وحاراتهم وأمن أحيائهم ومدينتهم، بعيدا عن كل الايدلوجيات والمدارس الفكرية المتطرفة.

نقلا عن صفحة الكاتب في فيس بوك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى