في أدق تعريف للتطرف قيل إنه: أسلوب مُغلق للتفكير يتسم بعدم القدرة على تقبل أية معتقدات تختلف عن معتقدات الشخص أو الجماعة أو على التسامح معها.
في أدق تعريف للتطرف قيل إنه: أسلوب مُغلق للتفكير يتسم بعدم القدرة على تقبل أية معتقدات تختلف عن معتقدات الشخص أو الجماعة أو على التسامح معها.
ويتسم هذا الأسلوب بنظرةٍ إلى المُعْتقَد، تقوم على أن المُعْتقَد صادق صدقاً مطلقاً أو أبدياً، وأن المُعْتقَد يصلح لكل زمان ومكان، ولا مجال لمناقشته ولا للبحث عن أدلة تؤكده أو تنفيه، والمعرفة كلها بمختلف قضايا الكون لا تُستمد إلا من خلال هذا المُعْتقَد دون غيره، وإدانة كل ما يخالف هذا المُعْتقَد، والاستعداد لمواجهة الاختلاف في الرأي ـ أو حتى التفسير ـ بالعنف، وفرض المُعْتقَد على الآخرين ولو بالقوة.
تبدأ مشكلة التطرف أولا على المستوى العقلي والفكري بانعدام قدرة المتطرف على التأمل والتفكير وإعمال العقل بطريقة أكثر تركيبية تنظر للمسألة الواحدة من عدة أوجه، ثم ثانيا على المستوى الوجداني أو العاطفي بالاندفاع الشديد في الحب والكره، فيكره بشدة من يخالفه الرأي، ويعارض بقوة ويغضب لكل فكرة صغيرة أو كبيرة، وفي المقابل يحب بشدة من كان في دائرته الفكرية، ويسلم بلا معارضة لما تقوله جماعته أو زعيم جماعته، ثم ثالثا وهو المستوى الأخطر وهو المستوى السلوكي حتى تترجم تلك الاندفاعية والكره من دون تعقل وتوازن إلى سلوك العنف والإجرام ضد مخالفه.
هذه السمات ليست خاصة بتطرف ينسب للأديان عموما أو لدين معين خصوصا، وإنما هي حالة تتوزع على كل أيديولوجيا وجدت فيها تلك السمات والخصائص سواء دينية أو لا دينية، وسنجد أمثلة كثيرة تؤيد ذلك التعميم.
لكن الإعلام العالمي يحاول مع سبق إصرار وترصد يحاول تركيز صورة التطرف على دين واحد هو الإسلام، ويسعى لإبراز أحداث متفرقة زمانا ومكانا يقوم بها متطرف يقول أو يقال أنه مسلم، بينما يفسر حالات أخرى باختلال أفرادها ولا يتعرض إطلاقا لذكر دينها، هذا إن ذكرها أصلا وإلا فإن الأكثر هو إغفالها والسكوت عنها ما دامت لا تخدم أهدافا يريدها، واسألوا عما يجري في أمريكا من حوادث إجرام متكررة لا تتوقف، ولا تأخذ لها نفس الصدى أو نصفه أو ربعه، رغم بشاعة بعضها!!
إذن هي ظاهرة متكررة وقعت في أكثر الزمان والمكان، مع فروق في النوعية والدرجة من جهة لأخرى.
لكني سأتوقف هنا عند حالتنا الإسلامية كمحاولة لكشف هذه الآفة الخطيرة التي صارت سكينا ذات حدين تقتلنا في مسيرتها وفي المسير لصدها، آفة تأخذ ألوانا وأشكالا مختلفة ربما أدرك الناس خطورة لون منها وغاب عنهم خطورة ألوان أخرى.
في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي ظهرت على السطح فكرة تكفير المجتمعات ووصفها بالجاهلية، تلك الفكرة التي أنتجت مشكلات لا زلنا نعاني من آثارها إلى اليوم بعد أن أخذ التطرف أشكالا جديدة، وظهرت جماعة تم هندستها في السنوات الأخيرة بطريقة هي الأشد بشاعة والأكثر غرابة في سلوكها وأفعالها!! حتى جعلت كثيرا من الشارع العربي يدرك أنها مصنوعة بعاينة لأهداف محددة، حتى وإن كان مادتها الخام من تراثنا المترامي زمانا ومكانا، والفارق الذي لم يتنبه له أولئك الذين يرمون بثقل الأسباب كها إلى التراث الفكري هو أن التراث لا يعني الثقافة، والتراث ليس بكامله من يشكل الثقافة، إنما جزء منه فقط هو ما يشكل ثقافة ما، الجزء الذي أخذ حظه من السلطة، وذلك الجزء هو مكون واحد فقط من مكونات أخرى تشكل الثقافة، والثقافة هي من تشكل عقل ابن بيئتها.
إن المتأمل في المادة الفكرية التي تستند لها “داعش” يجد أنها مصنوعة بعناية، صناعة جهة لا تنتمي إلى هذه الثقافة، وأقصد بالتصنيع هنا تلك التوليفة الغريبة المتناقضة، توليفة نجد تفاصيلها في التراث المترامي ولكن مهندس تجميعها ومركب أجزائها جعلها قنبلة لم يصنع مثلها تاريخنا الفكري، قنبلة جمعت سلفية مغرقة في السلوك مع غطاء حداثي متقدم لتكون أكثر انفجارا، لا مثيل لتلك الجماعة تاريخيا وحتى لو وجدت حالات مشابهة في تاريخنا، إلا أن تناقضات هذه الجماعة قد زادت وجعلتنا أمام حالة جديدة تحتاج لدراسة تنظر لأبعاد مختلفة.
ومن تناقضاتها أن المتطرف المغرق في سلفيته لو مشى في دائرة التراث كله ما يؤمن بسلطته وما لا يؤمن به فإنه لن يكون بتلك الصورة، فهو لن يميز قتلاه باللون البرتقالي ولن ينحت شعارا بلا ذكر لله أو الدين أو الشريعة، ولن يذهب باله لشعار “باقية وتمدد” الشعار الأقرب لصنع الشركات العملاقة، ولن يحصر دولته بالعراق والشام وينسى أن الخلافة عامة لكل أرض المسلمين، بل ولن يسميها دولة بل خلافة، وستكون رموزه الدينية وقادته لديهم قدر ما من الشهرة لا ذلك الظهور المفاجئ. أما إذا حصرنا المتطرف في دائرة ضيقة في التراث وهي الدائرة التي يؤمن بها وبسلطتها فإننا لن نجده يستشهد بكتب تاريخية لا قيمة لها كما تفعل جماعة اليوم؟!
إنه بحق متطرف مختلف، متطرف هيئت له كل الأسباب ليكون خنجرا في خاصرة مجتمعه لا في خاصرة أعداء مجتمعه.
علامات استفهام كثيرة تطرح حول هذا الجماعة ولا نجد تفسيرا لها من أولئك الباحثين عن أسباب ظهورها والذين يحصرونها بأسباب داخلية فقط.
في المقابل لذلك التطرف ظهر تطرف آخر وهو الحرب على ذلك التطرف، حتى بدأ أنه أحد الأهداف الرئيسية لتلك الصناعة، إنه التطرف في وصف المخالف بالداعشي، فبعد أن سمعنا وصفا للمجتمعات بأنها جاهلية، ها نحن اليوم نسمع بأن هذه المجتمعات داعشية، وكلا الفكرتين تخفيان دعوة مبطنة للقتل والإجرام الجماعي بحق هذه المجتمعات التي صارت تقتل بالإرهاب تارة وبمحاربة الارهاب تارة أخرى.
بنفس السمات والمستويات السابقة ستجد من يصف المجتمعات بالتدعيش، إلا أن الإعلام العالمي هذه المرة يقف في صف هذا الظاهرة الخطيرة حتى ليخيل لبعض مثقفينا أن تكرار حصر أسباب التطرف في تراثنا جزءا من عملية التنوير، مغفلين أو متناسين ما تبطنه تلك الدعوة من خطورة في تمزيق المجتمع ودماره.
إن المثقف هو حارس الوعي في المجتمع، فهو يلتقط ما لا يستطيع أن يلتقطه الفرد العادي، ويتنبه لما يدور من كل الاتجاهات والزوايا، ويوازن ويحلل ويتنقل هنا وهناك، لينبه مرة هنا ومرة هناك، لا أن يمشي باتجاه واحد وتفكير واحد وتفسير واحد فيزور الوعي ويغشه وعى ذلك أم لم يعي، فإذا لم يستطع المثقف تجاوز حالة التشويش الكبيرة التي تحاك حوله لتزيف وعيه ودفعه باتجاه بعيد عن مصلحة مجتمعه فكيف سيستطيع الفرد العادي تجاوز ذلك؟!
يكون المثقف مزورا للوعي وهو ينبهنا لخطورة الأفاعي التي قد تلسعنا من ثقوبنا الداخلية، مخفيا وساكتا ومدافعا عن ذئاب ستنهشنا من نوافذنا الخارجية، ويكون في المقابل أيضا مزورا للوعي إن نبهنا عن نهش الذئاب وترك لسع الأفاعي. ويكون المثقف مزورا حين يكون مقعرا فيما يستحق التحديب ومحدبا فيما يستحق التقعير من القضايا والأحداث.
سيكون المثقف خائنا إن تكلم عن حادثة عمر متين منفذ هجوم أورلاندو، وسكت عن حادثة قتل النائبة البريطانية جو كوكس، وسيكون خائنا حين لا يكشف زيف إعلام عالمي يركز على دين الأول واسمه ولا يركز على دين الثاني واسمه، وسيكون المثقف خائنا إن مشى في الزفة العالمية تاركا وراء ظهره الحقيقة التي يطمسها القوي ليستغل الضعيف، وسيكون أشد خيانة إن ترك الحديث عن تطرف وإرهاب وحروب الجملة الذي تقوم به دول عظمى وما سببته من قتل ودمار لمجتمعاتنا، ثم يكرر ويركز حديثه على تطرف التجزئة الذي يقوم به أفراد هنا وهناك.