مرت الذكرى السادسة والخمسين ل 30 نوفمبر المجيد، وتعود بنا الذاكرة في منتصف العقد الثاني من العمر، والمعلا حيث الميناء ومن على تلال جبل شمسان، كنا نشاهد رحيل المستعمر، مروحيات تنقل العتاد العسكري والجنود للبوارج الحربية في ميناء عدن ، كان رجل الخير والإحسان احمد مرشد تاجر خردة، قد اضاء الجبل شمسان بكشافات ضخمة من بقايا المستعمر، التي استخدمها للبحث عن الفدائيين في جروف ومرتفعات عدن، كان يوما مميزا ، حيث علقت اعلام الدولة الفتية، احمر وابيض واسود، وهو علم الجمهورية اليمنية اليوم، وكانت الشوارع مزينة بقناديل ملونة ومضيئة، شاركنا في المسيرات الحاشدة المؤيدة للاستقلال، التي اكتظت فيها شوارع عدن، تسلقنا الشاحنات وهي تنقلنا لمدينة الشعب ثأره و البنجسار ثارتا أخرى ويبقى السؤال هل كان استقلال ام جلاء؟
تلك الصورة الجميلة ل 30 نوفمبر التي عشناه في طفولتنا، وكبرنا وتطورت مداركنا، وعشنا كما عاش كل من تبقى في عدن، تحت ظل حكم المنتصر، بأيدولوجيته صاغ لنا كتب التاريخ والتربية الوطنية.
وكاي مواطن عشق مدينته ووطنه، راودته أسئلة كثيرة، لماذا تقاتل رفاق الكفاح المسلح؟ ولماذا اقصيت جبهة التحرير وبعض رفاق الكفاح المسلح؟ وأين اعلام وقامات المجلس العمالي؟ والمجلس التشريعي؟ وبعض رجالات الجمعية العدنية، لماذا تفرق رفاق الكفاح وفقدنا فدائيين وسياسيين كان لهم صيت وهدير، عرفناهم وترددت لمسامعنا من الكبار حكايات بطولتهم وبسالتهم في مقاومة المحتل، صحيح كنا أطفالا لكننا كنا جزء مما حدث، وعلى قرب من الاحداث.
ولي قصة وجدت من الضروري ان احكيها، حينما كنا نلهو وزملاء في باحت مقبرة المعلا، التقط احدهم قنبلة يدوية كانت مرمية، اخذتها منه، مع مرور احد الفدائيين من عائلة باحبيب ، في لحظة الشجار سحب الزميل الأمان، صرخ باحبيب ارمها بعيدا وانبطح، وحدث ان انفجرت بعيدا عنا، والحمد لله لم يصب أحدا منا بأذى، غير ما انتابنا من خوف ورعب، هرولنا لبيوتنا، دقائق وكان جند الانجليز يحوطون المنطقة، ويبحثون عن الفاعل، ومرت بسلام، وكم هي الحوادث المأساوية التي راح ضحيتها الكثير من الأطفال من بقايا المتفجرات ، وكم هي قصص الفدائيين التي صارت حكايات لبطولات وبسالة مدينة وشعب تواق للحرية والاستقلال والسيادة على ارضه، وحقه في الإرادة الحرة لتقرير مصيره .
ونعود للأسئلة، التي كلما كبرنا تعددت وتنوعت وتعقدت، واهمها اين الاستقلال الذي تطلعنا اليه؟ واين النعيم الموعود والجنة المنشودة؟، اين الدولة الوطنية ووطن التعايش؟ اين عدن التي كانت وكنا؟
وفي السبعينات صرنا مضطرين ان نصحوا فجرا لنقف طابور المقرر لشراء الخضروات واللحوم والدجاج والاسماك ، كما هو مقرر لنا من المواد الغذائية من شركة التجارة الشركة الوحيدة للدولة ، كيلو سكر لكل فرد، وهكذا بقية المتطلبات بقسيمة شراء كلا بعدد الاسرة، وعندما تقرر الدولة استيراد فواكه، تكتظ الطوابير ازدحاما، كل هذا والرفاق زادوا من حجم معاناة الناس بصراعاتهم التي دمرت ما خلفه الاستعمار من اعمار، ومن ثقافة ومجتمع مدني وتعدد سياسي وثقافي وعرقي، صراعات استمرت في تهجير العقول والكفاءات والمهارات، واستبدلت بمناصرين لشعار ثورة ثورة لا اصلاح.
كبرنا وعرفنا ان المستعمر البغيض طرده المناضلين والابطال، وحكم البلد شوية شباب متحمس ومسلح بثورة ثورة لا اصلاح، وسالمين نحن اشبالك وافكارك لنا مصباح، وعلى الكل ان يعيش ويكن له نصيب في التعليم والوظيفة كعضو في الحزب، وعبدا للانضباط الحزبي، بيئة كانت طاردة للفكر المختلف, والراي المختلف، وراس المال والشركات الكبرى محلية ودولية، وتحولت عدن لنوع واحد ولون واحد ونفس واحد، وصوت واحد لا صوت يعلو عليه، وزاد من مأساة عدن وابنائها تأميم المساكن واجب ، وتخفيض الرواتب واجب، تحريق الشوادر واجب، واجب علينا واجب، هذه الصورة السوداوية للاستقلال.
وما زال الاستقلال ضائع، و 30 نوفمبر هو الروح الذي يجب ان يبقى ليغذي فكر الاستقلال في كل ذهنية جيل، 56 عام ونحن نسعى للاستقلال وفي كل مسعى نجد من يعيق استقلالنا، ونفقد كل منجز تحقق، اليوم نفتقد للدولة الوطنية التي تأسست في 30 نوفمبر ، وافتقدنا للوحدة و دولة أن وحدة الأرض لكنها فرقت بين الناس، واليوم ما زال ساطور التمزيق يعمل، ليقسم البلد لكنتونات ويحلم المستعمر باستعادة مشروعه الجنوب العربي، وعودة السلطنات والمشيخات، كما يحلم بعودة الامامة في الشمال، وما زال الشعب تواق للحرية والاستقلال، شعب ابكى الصخور وهزم بريطانيا العظمى التي لا تغيب عنها الشمس، اليوم منهك يتطاول عليه الاقزام، لكنه شعبا جبار سينتفض في ليلة غبارها سيصل ليطيح بكل عميل ومرتزق، وكل دخيل وطامع ، وكل من لا يعرف ان اليمن مقبرة الغزاة .