تماهى المؤلف محمد مختار الشنقيطي مع شكل الدولة الحديثة مغفلا تأثير الرأسمالية على شكلها وروحها بما يجعلها مخالفة في ذلك مقاصد الإسلام في السياسة والاقتصاد.
هذا المقال هو خلاصة ندوة قدمتها في هيئة الأعمال الفكرية في الخرطوم لقراءة نقدية لكتاب “الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية: من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي” لمؤلفه الدكتور محمد المختار الشنقيطي”، وسأحاول أولًا أن أضع القارئ أمام عرض سريع عن الكتاب كما وصفه مؤلفه، ثم أقدم أبرز الملاحظات النقدية التي قدمتها على هذا الكتاب.
يعتبر الكتاب في نظري إضافة تأصيلية مهمة في الفكر السياسي الإسلامي، حيث سعى المؤلف لاستعادة القيم السياسية التي جاء بها الإسلام في مجال بناء السلطة السياسية وأدائها بما يحقق الدولة الإسلامية التي تضمن التعايش والحرية بين مختلف المذاهب والاتجاهات الفكرية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
يلخص المؤلف مقصده من هذه الدراسة بأنها تعتمد النص الإسلامي معيارًا، والتجربة التاريخية الإسلامية موضوعًا، وخروج المسلمين من أزمتهم السياسية غاية. والمقصود بالأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية تلك المفارقة بين المبدأ السياسي الإسلامي والواقع التاريخي الذي عاشه المسلمون سياسيًا، ولا يزالون يعانون تبعاته حتى اليوم، ثم ما نتج عن تلك المفارقة من صراع على الشرعية السياسية في تاريخ الحضارة الإسلامية منذ منتصف القرن الأول الهجري إلى اليوم.
قدم المؤلف تلك المفارقة في شكل توتُّر دائم بين مقتضيات المبدأ النصي وأعباء الواقع المتخلِّف عنه أو المقاوِم له. فقد خلَّفت هذه المفارقة –بحسب المؤلف- بين المبدأ النصي والواقع السياسي ألمًا ظاهرًا على الجسد الإسلامي، وتشاؤمًا مُضمَرًا في حنايا الضمير المسلم عبر القرون. وليس من المبالغة القول إن جميع مظاهر الحضارة الإسلامية -بما في ذلك وعْيُها بذاتها وعلاقتُها بالغير- اصطبغت بصبغة أزمتها الدستورية، منذ صدْر الإسلام إلى زماننا الحاضر. لذلك اعتبرها المؤلف أزمة حضارة، لا مجرد أزمة نظام سياسي.
يتألف الكتاب ثلاثة أقسام يشتمل كل منها على فصلين. يتحدث موضوع القسم الأول عن النص السياسي الإسلامي، أما موضوع القسم الثاني فيتحدث عن التاريخ السياسي الإسلامي، أما موضوع القسم الثالث فيحاول أن يتلمُّس سبيل للخروج من الأزمة السياسية الإسلامية.
يصل المؤلف في نهاية الكتاب إلى خلاصة مفادها أن أي سعي لإخراج الحضارة الإسلامية من أزمتها الدستورية لن يفلح إلا إذا اتسم بسِمتين، أولاهما: أن يكون مُقنعًا للضمير المسلم المتعلق بالقيَم السياسية الإسلامية وبتجربة الإسلام السياسية الأولى، وهذا يستلزم أن لا يكون الحل حلاًّ عَلمانياًّ منبتاًّ عن وجدان الشعوب ومزاجها الديني والأخلاقي. وثانيتهما: أن يكون مُنسجمًا مع منطق الدولة المعاصرة لا خارجاً عنها أو عليها، وهذا يستلزم أن لا يكون الحل حلاًّ سَلَفياًّ مستأسراً للذاكرة التاريخية المستمدَّة من الإمبراطوريات الإسلامية الغابرة. فالخيار العلماني مستحيل إسلامياًّ، والخيار السلفي مستحيل إنسانياًّ، والحل هو المنهج الإسلامي التركيبي الذي يجمع بين الديني والمدني.
يؤكد المؤلف في خاتمة الكتاب أن المسلمين لم يكونوا بدْعاً في تراجع القيَم السياسية في تاريخهم أمام السياقات الإمبراطورية. فقد انحسرتْ قبل الإسلام بقرون القيم الديمقراطية في أثينا -ثم في روما الجمهورية- أمام الروح الإمبراطورية، وظلت تلك القيم الديمقراطية تنتظر وقتها في شكل إمكان تاريخي كامنٍ، حتى تفتَّقت أمامها فرصُ التحقق واقعاً مَعيشاً مع النهضة الأوربية الحديثة. وقد تفتقت مع الثورات وموجات الديمقراطية المعاصرة فرصٌ عظيمة أمام القيم السياسية الإسلامية للانبعاث. ويبدو أن الربيع العربي بداية تحوُّل تاريخي عميق، سيقود إلى تجديد نضارة الحضارة الإسلامية، وتحريرها من أزمتها الدستورية، ومن رَهَقِ سيف الإمامة الذي أنهكها عبر القرون.
ملاحظات نقدية:
هناك ملاحظات تفصيلية صغيرة لكنها لا تهم كثيرًا ولا يتسع المقام لسردها جميعا، ولذا سأركز على أبرز الملاحظات التي تلامس جوهر الكتاب، وهي ملاحظات تأتي في سياق تطوير فكرة الكتاب لا هدمها.
1- لم يحدد المؤلف تمامًا ما هي حدود الوحي في النص الديني بحيث نقول إن هذا الأمر ديني وذاك تجربة بشرية، وهذا الموضوع يتعلق بدراسة مقامات النبي وتمييز مقام الرسالة عن مقام ولي الأمر باعتبار الأول دينيًا والثاني تجربة بشرية في ضوء قيم الدين.. لأن اعتبار كل النصوص وحيًا كما يراه المؤلف يدخلنا في إشكال خطير ما زلنا نعاني منه وهو في حال رد بعض الروايات المنسوبة للنبي هل نرد الدين أم نرد روايات ظنية تحكي لنا تجربته البشرية واجتهاده في مقام ولي الأمر.. وهناك من الروايات ما رفضها المؤلف باعتبارها تتناقض مع القيم السياسية التي ذكرها فهل نعتبر رفضه لها رفضا للوحي؟!
2- ركز المؤلف على أن هناك تغييب للنص السياسي الإسلامي لا غياب. وبرأيي أنه ليس عيبًا في الفكر الإسلامي أن يكون هناك غياب في النص في القضايا السياسية بل هي ميزة فيه، لأن النص الإسلامي يذكر القيم العليا في الشريعة (المعاملات الحياتية) ويدع تفاصيل تطبيقها للخبرة البشرية والعقل بما يناسب الزمان والمكان لكل قوم وبما لا يخالف مقاصد الشريعة.
3- تحدث المؤلف عن الفراغ السياسي في الجزيرة العربية وعن غياب مفهوم الدولة كسبب رئيسي في عدم تحول القيم السياسية للواقع، لكن الحقيقة أن الجزيرة عرفت مفهوم الدولة كغيرها من الامبراطوريات القديمة، ومثال ذلك الدولة السبئية والحميرية في جنوب الجزيرة، فهل كانت معلوماته عن الدولة اليمنية القديمة ناقصة أم أن اللفظ خانه وكان يقصد قبل فترة الإسلام فقط، لأن كلامه كان واضحًا عن أن الجزيرة العربية لم تعرف في تاريخها دولة.
4- يستند المؤلف كثيرًا على تفاصيل التاريخ، ونحن نعرف مشكلات كتابة التاريخ وما صاحبها من تزوير وتلفيق يجعلنا نكتفي بخطوطه العريضة فقط، بما يغنينا عن جلد أحداث تاريخية ربما لم تكن بتلك الصورة التي صورتها لنا كتب التاريخ، فإذا كان الوضع قد طال منهج المحدثين الذين حاولوا إحكامه، فكيف بالتاريخ الذي لم يحظ بمثل ذلك المنهج.
5- تحدث المؤلف عن أخلاق دولة الامبراطورية السيئة مقارنة بالدولة العقارية الحديثة والتي هي أقرب لمقاصد الإسلام.. لكنه لم يعلق على مشكلة الفتوحات التي قامت بها الامبراطوريات الإسلامية كخلق سيء من أخلاق تلك الدول خالفوا فيه القيم السياسية الإسلامية، خاصة وأن الكتاب ينتقد بشدة التاريخ السياسي للدول محاكما إياه إلى القيم السياسية.
6- لم يضبط المؤلف مفهوم المرجعية الاسلامية للدولة والذي سيظل محل إشكال بسبب بعض الفجوات التي فيه. فهل الشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع وهل للدولة دين؟ وكيف سنعمل في قضايا كثيرة تتماس مع الفكر الإسلامي لا مع الدين نفسه؟
7- تماهى المؤلف مع شكل الدولة الحديثة مغفلا تأثير الرأسمالية على شكلها وروحها بما يجعلها مخالفة في ذلك مقاصد الإسلام في السياسة والاقتصاد. وتأتي هذه المشكلة ضمن غياب النقد الإسلامي بشكل عام للرأسمالية كما نقدوا الاشتراكية من قبل، ذلك أن التيارات الإسلامية لم تتصادم مباشرة مع الرأسمالية كما تصادمت مع الاشتراكية، وهذا جعل أخلاق الرأسمالية تتسرب إلى فكرنا بهدوء، نتيجة قلة الدراسات الاقتصادية التي تقرب النظرية الإسلامية في الاقتصاد، وربما ليس خافيًا ما للاقتصاد من ارتباط وثيق بالسياسة.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.