الرواية مليئة بالأساطير الدينية.. وهناك استخدام للتناص الديني. تتناول رواية مروان الغفوري “طريق الحوت” موضوع البعثة الدنماركية التي قدمت إلى اليمن في منتصف القرن الثامن عشر بأوامر من الملك فردريك الخامس، والتي تناول أحداثها توركيل هانسن في كتابه “من كوبنهاجن إلى صنعاء”.
* أساطير دينية وتاريخية
كان للرحلة التي جهزها ملك الدنمارك هدفان: أولهما علمي، والآخر محاولة تفسير نصوص العهد القديم، وهدف الرحلة عند الغفوري ذو بعد ديني وأسطوري وميتافيزيقي، بل إن الرواية كلها تدور في أجواء أسطورية ولا واقعية، يتداخل فيها الواقع بالأسطورة والحقيقة بالخيال.
الرواية مليئة بالأساطير الدينية.. وهناك استخدام للتناص الديني “المصريون الذين أغضبوا الرب عاقبهم في الأخير بعد الصفح عنهم بالرياح والضفادع”.
لا تتقاطع الرواية مع نصوص دينية كثيرة فقط، بل إن جو الرواية العام هو البحث عن الأساطير والحقائق على حد سواء.
المظلومية التي قدمها بنو إسرائيل في أيام فرعون تنسحب على لسان حورية كامل، لتعطي رؤية ناقدة أو رافضة للإنسانية في العصر الحديث بشكل عام.. فالإنسان في هذا العصر معتقل بالوظائف، وأرباب العمل هم فرعون هذا الزمان.
“أصبح العالم كله سجنا فرعونيا ونحن كلنا شعب إسرائيل”
العربية السعيدة في نظر الأوروبي هي أرض الظلام الدامس، أسرار العهد القديم، أرض النبوءات وسر العالم، والوصول إليها وفتح أسرارها هي لإنهاء الخوف في العالم كما يتحدث كارستن نيبور، ولذا فالرواية تعطي إشارة واضحة لمفهوم الأوروبي عن الشرق المليء بالأسرار.
تفتتح الرواية مدخلها بجملة من سفر الخروج “وقال الرب لموسى مد يديك إلى السماء فمد يديه، وكان هناك ظلام دامس غطى أرض مصر لثلاثة أيام”.. تشير هذه المقدمة بوضوح إلى أحد أهداف البعثة الدنماركية، وهي الوقوف على أسرار الشرق، مهبط النبوات والكتب المقدسة.
من أول صفحة تتمكن أورسولا من إدخال الرواية عالم الأساطير، حيث الرياح والظلام والاشجار وكنيسة نيكولاوس.. لقد قال قائد مجموعة الشرطة بجلاء “لقد أُحطنا بالأساطير”.
تُعد الأساطير في هذه الرواية حجر الزاوية، حيث لا تكتفي الرواية باشتمال الأساطير الدينية، بل تعدتها إلى أساطير قديمة تفسر عذوبة النبيذ الإسكندنافية، “نبيذ الحكمة والشعر” وهذا ما كتبته الشرطة في تقريره ساردة تلك الأسطورة الغريبة لتشكل النبيذ الإسكندنافي.
هناك تناص واسع في الرواية.. فهناك التناص الديني، وهناك التناص التاريخي، الذي هو موضوع الرواية، وهناك التناص الأسطوري والفلسفي، كما في حديث الشرطي عن مبادئ الطاوية، وكما في فلسفة تقمص الأرواح والحلول.. التناص بالنسبة لهذه الرواية هو عمود فقري.
*الشخصيات والأحداث
تعيد الرواية صياغة الرحلة كليا، تعيد صياغة الشخصيات والأحداث على نحو عميق.. فكريمر كان دنماركيا ولم يكن ذا خلفية فكرية نابعة عن الحرية، إنما كان ذلك فورسكال، بينما كان كريمر طبيبا عديم الفائدة في تلك الرحلة العظيمة، ويدل على ذلك ما كتبه كارستن نيبور بعد وفاة كريمر قائلا: فتشوا في مذكراته فلربما وجدتم شيئا ذا فائدة.
والرواية لا تترك كل شيء مبهما، فهي تفصح عن ذلك.. لقد قال نيبور للشرطة “إنهم مستنسخون من شخصيات قديمة ركبوا سفينة في القرن الثامن عشر، بحثا عن العربية السعيدة وتاهوا في البحر”.
*إنسان العصر الحديث وشخصية سيلفيا
الملل هو الشيء الذي عرفه الإنسان قبل ثلاثة قرون فقط منذ دخلت الآلة حياة الإنسان، لأنه قبل ذلك الوقت كان يفني كل وقته في الزراعة ليأكل، وعندما دخلت الآلة حياة البشر وجد الإنسان وقتا كافيا ليشعر بالملل والضجر، وهذا جزء من المشكلات التي ولدتها القرون الأخيرة.. سقط الإنسان في مشاعر الملل كما سقطت الشرطية سيلفيا، وهي شرطية ألمانية التحقت حديثا بجهاز الشرطة، وكانت لها رغباتها المتداخلة بشأن مضاجعة رجل.. لكن هذا الملل الناشئ في الرواية لم يتوقف عند الشرطية سليفيا، بل يبدو أن أوروبا كلها تعيش مشكلات الإنسان الوجودي أو الإنسان “اللا منتمي” كما هو عنوان كتاب كولن ولسن، فالكردي الذي تم تقديمه إلى المحاكمة بحجة أنه أدخل أفرادا من عائلته إلى ألمانيا بطريقة غير قانونية كان رده أنه كان بحاجتهم، لأنه لم يجد في أوروبا أناسا بمقدوره أن يلعب معهم.. وإن كان من السهل على رجل كردي أو أي رجل آخر أن يحاول ردم هذا الانقسام الداخلي الذي يعيشه المرء بهذه السهولة كما فعل الكردي، فإن الانقسام الداخلي والتفكك الذي تعانيه سليفيا لا يمكن التئامه بهذه السهولة، فطريقة الكردي قد تبدو نافعة لخصائص الإنسان البسيط، لكن سيلفيا لا تبدو كذلك.
وأمام هذا الإنسان المرتبك طرق عدة لرأب هذا الصدع الروحي، بل هو ليس صدعا روحيا مطلقا، فقد يكون صدعا شعوريا أو عقليا أيضا، البعض منهم يذهب للدين والانخراط في الطقوس الدينية، والبعض منهم يذهب إلى الجنس والملذات الروحية، شأنه شأن أي فردي “أبيقوري” نسبة إلى “أبيقور” وهي فلسفة تعظيم الملذات الحسية.
لقد حاولت سيلفيا السقوط أولا في شرك الشهوة والجنس، يساعدها في ذلك جسدها البض والحيوي، ويمنعها التردد والشك والنظرة إلى العالم بطريقة مختلفة “سيلفيا ليست عاهرة. النساء مثلها لا يصبحن عاهرات. فهي ليست متدينة ولا هي أخلاقية، لكنها تفهم العالم بطريقة تجعلها تشكك في كل ما يجري فيه”.
نحن لا نملك أي شيء عن ماضي سيلفيا، لكنها أيضا ليست شرطية تبحث عن تنفيس غرائزها.. لديها تفسيرها الخاص للعالم كما لدى الإنسان القديم، وأعني به الإنسان الذي اخترع الأساطير للهروب من جحيم السؤال، وتفسير الظواهر الكونية الكبيرة، بدلا من الوقوف العاجز الذي لا يفهم لماذا تسقط الأمطار، أو تهتز الأرض مثلا، أو تقع الفيضانات أو تكسف الشمس..
فسيلفيا لها نظرتها ورؤيتها المختلفة عن العالم.. لقد قدمت الأديان تصورات خاصة وتفسيرات عن كثير من الظواهر الكونية، فكسوف الشمس ناتج عن غضب الآلهة، وقدم العلم الحديث تصوراته الخاصة عن كثير من هذه الظواهر الكونية، لكن سيلفيا لديها رؤاها الخاصة ولديها منذ طفولتها ما يبرز هذا التوجه لصياغة العالم بوضوح.
تغرق سيلفيا في حب اكتشاف الماضي والأساطير، ويغرق نيبور في ماضيه.. ترى سيلفيا فيه الماضي، ويرى نيبور فيها سفينته التائهة و”فاطمة” المرأة العربية التي التقاها على ظهر إحدى السفن في طريقه إلى العربية السعيدة.
تمثل الشرطة إنسان العصر الحديث بمنطقه وحبه للاكتشاف والانخراط في مهمات عظيمة، وبملله وشعوره بالغربة، بتيْهه في الأديان والتعاليم والشرائع والفلسفات، بين الظلام الدامس وشروح العهد القديم.. الظلام هو هذا العصر الذي سيدحر أول ما يدحر “الفلسفة”.. يؤكد الكاتب: لقد سلكت سيلفيا طريق الشك ويحيط بها اللا معنى.. إنها أفضل تعبير عن الإنسان الحديث. لقد رصدت الرواية جزءا من تحولات الإنسان الحديث، ففون هافن لاحظ في شخصيته المتقمصة تحولات الرغبة الجنسية في القرن العشرين، فقد تطورت وتعقدت وأصبحت أكثر غرابة وحِدّة وبهيمية ومازوخية وعنف، ومرة أخرى يعود هذا الغريب فون هافن في مونولوجه أمام سيلفيا لتأكيد أن الملل والعزلة هو ما يؤلم خصر الفتاة أكثر من الرغبة.
*منطق مغاير
هناك منطقان في الرواية: منطق قديم وحديث أو منطق مؤمن ومنطق الإنسان المغرور الذي يؤمن بقدراته الفائقة، أو ما يسميه نيتشه الإنسان المتفوق.. لقد سجل هذا الحوار الذي دار بين حورية كامل والشرطة هذه الجدلية بوضوح.
” ولكن لماذا لم يبحث أحد حتى الآن عن ذلك الظلام الدامس؟ لماذا “تقف حضارتنا عاجزة عن اكتشافه إذا كنا نعرف أنه يختبئ في الجزء الجنوبي من العالم، وأنه أحد أسباب اضطرابات هذا العالم؟ لو عثرنا عليه فسنجد ضفادع أورسولا ودابة حورية وسنفعل شيئاً ما حيالها. وربما سنعثر على العواصف التي تخرج من هناك وتجتاح المدن. لنضع حداً لهذا الجنون يا أصدقائي” ردت حورية، ساخرة: وهل تعتقد أن الإله سيعجز عن ابتكار وسائل أخرى أو خلق دابة جديدة؟ وجد الشرطي السابق سؤالها جيداً فقال بمزيج من الثقة والحماس: يبدو أنها دابة أخذت من الإله وقتاً كثيراً حتى يصنعها بالطريقة “تلك، كما فهمتُ منك. على الأقل سنعطل حيله لبعض الوقت وسنضع في طريقه العراقيل. دعيني أقُل لك شيئاً: من المناسب أن نفهم الطريقة التي يدبّر بها الإله مكائده. مما نسمعه من رجال الدين والكتب المقدسة أنه ليس ثمة من تناسب بين الخطيئة والعقاب. أحياناً تجدين الإله يقلب قرية صغيرة رأساً على عقب لأتفه الأسباب. ما الذي فعلته قرية في قادم الأزمان حتى تنال ذلك العقاب. عودي إلى دينك، ليُعد كل منا إلى دينه، ثمة أمثلة كثيرة. سيقول لك رجل الدين: علينا أن نتجنب ارتكاب الخطيئة. حسناً، أجد تلك النصيحة جيدة، ولكن لنذهب أبعد من ذلك.
لنضع العراقيل أمامه. ليدعنا نكتشف الخطيئة بأنفسنا ونعالجها، ليمنحنا كل الوقت. لكنه يسارع إلى البطش بنا. انظري إلى العواصف التي ضربت إيسّن، والتي تكررت مؤخراً. إنها محاولة مستميتة من الرب لإخضاعنا، ولولا إن حضارتنا قد تجّهزت لمكائده لكان مصيرنا مثل مصير قرى العهد القديم. أو لكنا قد أصبحنا مثل المصريين المساكين الذين فتحوا أعينهم فوجدوا الضفادع تقتحم المنازل”.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.