حتى وإن لم يكن هناك سوى التراب ليأكله في اليمن، فليعد إلى وطنه وليأكل من تراب اليمن، فتراب الوطن لم تلوثه أقدام النّياق المدللة آكلة الكبسة، وسنوات الغربة الصعبة يجب ألّا تنتهي بلا إنجاز.
اتخذ القرار الصعب، لأن بقاءه صار أصعب، إنه نوع من الموت البطيء كتناول جرعات من سم فتاك يشل الحواس والأعصاب. مستحقات الكفيل والدولة تفوق دخله الضئيل، فهل يترك أهله يموتون جوعاً في اليمن كي يعول سعوديّاً منتفخ البطن يعامله كنكرة!!
حتى وإن لم يكن هناك سوى التراب ليأكله في اليمن، فليعد إلى وطنه وليأكل من تراب اليمن، فتراب الوطن لم تلوثه أقدام النّياق المدللة آكلة الكبسة، وسنوات الغربة الصعبة يجب ألّا تنتهي بلا إنجاز.
فإذا كان الإنجاز المالي حلماً بعيد المنال، فليكن إنجازاً روحيّاً وفرضاً دينيّاً يجب عليه أداؤه، عليه ألّا يترك سنوات العذاب تذهب هباءً. الحج على الأبواب والتنقل بحرية حلم لأمثاله فهم العبيد الجدد لرعاة الإبل وآبار النفط ولا يحق لهم السفر أو التنقل بدون إذنٍ أو رخصة، لكنه عاطل عن العمل، والهروب أصبح سبيل أبو يمن للتنقل عبر هذا الكوكب.
باع كل ما لديه من أشياء قد تباع ولها ثمن، اشتراها منه رفاق المعاناة والغربة، فجمع قليلاً من المال قد يكفيه حتى يصل إلى مبتغاه..
حين وطِئت قدماه الأرض المباركة لم يجد موطئ قدم.
هنا فقط لن تعرف السلطات أنه “حاج تهريب”.. فكل هذه الأمم قد أتت من أجل أن تقول: كلنا أمام الله سواسية..
لم يدرك يوم التروية.. ولكن الحج عرفة.. ومع سيل الحجاج العارم توجه نحو عرفة، كان يدعو الله أن يقبل حجة التهريب هذه وألّا يرده خائباً.. فكر (أن أموال الحجاج التي دفعوها لن تذهب إلى بيت مال المسلمين بل إلى جيوب اللصوص والسارقين)، ومع طول المسافة بين عرفة ومنى والسير على أقدام شبه عارية كان في البداية يبكي من الرهبة والغربة وأصبح يبكي من التعب والنصب.. فكر (لعلّه تسرّع في قراره، فهو وحيد جاهل بما حوله، حتى أنه لا يدري أين الطريق.. فقط ترك نفسه لتيار البشر الجارف).
وصل الطوفان البشري إلى جبل عرفة ولكنه لم يرَ أيّ جبل.. لقد رأى كتلاً ثم كتلاً من البشر فوقها فوق بعض يتزاحمون كأنه يوم الحشر ويبكون ويرفعون أكفهم متضرعين..
فكر (لعلّهم يبكون من شدة التعب والجوع مثله). زاحم قدر استطاعته علّه يجد مكاناً يندسّ فيه وكلما وجد شبراً كي يضع فيه قدماً ويعلق أخرى أتى من هو أضخم منه وأزاحه برفق أو غلظة، وقد تناسى بعض الحجاج أن الحج جهاد للنفس وليس موجهاً للحجاج من حوله.. فكر (لعلهم يشتمّون فيه “حاج تهريب يمني” فيضنّون عليه ببقعة صغيرة يركن إليها).
قضى شطراً كبيراً من ذلك المساء يبحث عن مكان يركن إليه، ومع الحَرّ وطول المسير تسلّخت قدماه وبين فخذيه، وأصبح يمشي من أجل البقاء؛ فلو توقف سيطمره سيل البشر دون رحمة..
وأخيراً وجد مكاناً صغيراً يكفيه جلوساً بدا له كقصر غمدان في أوج عزة، وارتمى عليه يريد احتضان هذا المربع الصغير، وألقي كيساً صغيراً كفرش يرقد عليه جلبه لهذا الغرض ومعه كيسٌ آخر فيه بعض الثياب والقليل من التمر.. جلس وقد أخذ يعتذر إلى ربه كثيراً.. لقد أنساه التعب بركة يوم عرفة.. لكن الله غفور رحيم.
شعر بآلام التسلّخات تتصاعد إلى رأسه مع التعرّق وحالة السكون النسبي التي حصل عليها وبدأت الحرقة تؤلمه ورغبة مُلحّة في الذهاب إلى الحمام تؤرقه، وتلفّت يمنةً ويسرةً كمن يستنجد بمعجزة.. وأخيراً لم يعد يحتمل، سيذهب إلى أقرب حمام ويريح نفسه، التفت إلى الجالس بجواره وسعد أنه عربي مثله قد يفهم مطلبه الوحيد والمصيري.. أن يحتفظ بمكانه وكيس ملابسه حتى يعود..
طافت عيناه في المكان حتى يعرف إحداثيات موقعه.. لحسن حظه أن موقعه يعد في الأطراف وهكذا تسهل عودته، وبدأت رحلة معاناة أخرى، كون أقرب حمام يبدو كأقرب قرية نائية إلى قريته، وفي رحلة العذاب تلك لعن في سره تلك الفكرة المتسرعة والعاطفية التي قادته إلى هذه المعاناة دون رفقة أو مال كاف أو حتى خبرة..
حين عاد إلى ما كان يعتقد أنه الطرف أو الركن الخاص به، لم يجده ولم يجد كيس ملابسه أو الرجل الذي ينتظره.
أحس بالدوار.. فكر (لعلّه أضاع المكان فكل الأماكن تتشابه هنا وما قد يكون طرفاً يصبح بعد قليل وسطاً مزدحماً).
دفع اليأس عن صدره المكتئب وأدرك أن الحج جهاد، وأنه إذا صبر واحتسب سيعود كما ولدته أمه عارياً تماماً من الذنوب ومن كل شيء تقريباً. لم يجد الوقت كي يتعبد الله؛ فقد قضى جُلّ يومه يبحث عن مكان يستريح فيه، وكلما قرر الوقوف كي يريح جراحه وجوعه تحرك رغماً عنه حتى أنهك تماماً وسقط لا يدري أين..
فتح عينيه مع شروق الشمس، كان الحجيج ينزلون من عرفة فظل ساكناً من شدة الخواء لا يدري ماذا يفعل.. بدأ المكان يفرغ من الناس وبإمكانه رؤية الأرض من تحت أقدامهم، وظهر له شيء مألوف مرمياً على الأرض.. إنه قميصه أو ما تبقى منه، فقد زحفت عليه مليون قدم مزدوجة، ونهض من مكانه يلملم كيس ملابسه الذي انتشر على مساحة كبيرة لا يدري كيف..
كان يبحث عن التمر في علبة صغيرة كانت بين الملابس؛ لكنه لم يجدها..
فيما الحجاج يتجهون إلى مزدلفة، اتجه هو نحو أقرب عيادة لإسعاف الحجيج؛ فقد نال منه الإعياء والجوع منالهما وزادت معاناته بالتسلّخات والتقرحات الشديدة بين فخذيه وباطن قدميه.
لحسن الحظ أنه بإمكان المرء أن يجد دواءً مجانياً وأيضاً بعض الطعام من أهل الخير وإلّا لكان مات دون أن يكمل جهاده المقدس.
أغدق على نفسه بتلك المراهم والمسكنات للألم، ومضى ينهي حجه برمي الجمرات؛ ولشدة مشقة السير والنصب تمنى أن يرمي كل من يصادفه بحجر..
غير قادر على دفع تكلفة الركوب، والمسافة بدت له طويلة بلا نهاية، ظلّ يمشي مباعداً بين ساقيه تخفيفاً للاحتكاك، ودموع الألم تطفر من عينيه، يلعن صاحب أفكار توسعة مناطق الحج.. كان جهاداً حقيقياً؛ لكنه انتصر وعاد إلى المشفى بحالة سيئة، حينها قرر أن يريح جسده المنهك يوماً كاملاً قبل الذهاب إلى الكعبة ومعاناة الطواف الأخير.
حين طالعته الكعبة طفرت الدموع من عينيه ودعا الله أن يعود لأهله فقط؛ فقد خالجه شعور بأنه لن يعود للوطن بعد كل هذه المعاناة.
حاول مراراً أن يندسّ بين موجات النهر البشري الذي يطوف حول الكعبة؛ لكنه أبداً لم يجد موضع قدم.. تلاحم البشر حتى أنه لا توجد فرجة صغيرة يدخل فيها إنسيٌّ أو شيطان..
يتمنى لو أنه تمكن من الطواف في صحن الكعبة فالمسافة أهون من الأدوار العليا؛ إلّا أن حظه العاثر قاده رغماً عن أنفه إلى الدور الأخير حيث الطواف طوافين..
أصبح الأمر يشبه المعجزة مع حالته السيئة إلّا أنه فعلها، وأنهى الأشواط السبعة في سبع ساعات كانت كفيلة بتمزيق تلك التسلّخات العنيفة التي أصابته.
وكأن دعوته حال رؤيته وجه الكعبة هي ما أبقته حيّاً كي يكمل حصاد الغربة المذلة، ويفكر في عودة سليمة لأرض الوطن دون التعرض لمآسي التزفير والترحيل التي تواجه كل يمني بأوراق أو بدونها..
قرر أخيراً العودة وكان عليه أن يتحمل آخر جرعة للمهانة والحاجة فلم يكن لديه حلٌّ سوى تسليم نفسه للسلطات كي يرمونه خارج مملكة النفط .. وكان ما أراد..
إنهم يعشقون التقاط العنصر اليمني كالذباب.. متناسين أن هذا العنصر هو من عمّر الصحراء الجدباء يوماً، بل ويمعنون في إذلال اليمنيين وإهانتهم كلما سنحت فرصة، ولا أروع من فرصة الإمساك بمغترب يمني يريد التزفير الاختياري..
كل معاناة سنوات الاغتراب تجسّدت في أول صفعة مودعة عند الحدود لتتجمع أنهار من الحقد والغضب والسخط لتكون صفعةً متبادلةً بينه وبين الشخص البطين أمامه، أعقبتها بصقة حملت كل الاشمئزاز والقرف اليمني في وجه الجارة اللعينة.. وأطلق ساقيه للريح..
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.