كنا أنا وزميلتي نراه كل يوم تقريبا، جالسا في ظل ذلك المنزل، مسندا ظهره المحدودب إلى الجدار، واضعا ساقا هزيلة على أخرى في جلسة استطلاعية لكل المارة في الشارع كنا أنا وزميلتي نراه كل يوم تقريبا، جالسا في ظل ذلك المنزل، مسندا ظهره المحدودب إلى الجدار، واضعا ساقا هزيلة على أخرى في جلسة استطلاعية لكل المارة في الشارع الضيق، عيناه الغائرتان تحدق في الغادين والرائحين في فضول تعجز نظراته المهترئة عن اشباعه كلما حاول أن يّمعن النظر في القماش الأسود المتحرك أمامه، فمه المفتوح في دهشة غير موجودة لطالما أثار ابتسامتي خلف النقاب، كانت ملامحه في مجملها تحمل مسحة بلهاء أكثر مما ينبغي.
ذات يوم أخبرتني زميلتي ضمن حكايات الطريق العديدة التي تتسلى بسردها على مسامعي بجوار سماعة الاذن العالقة في إذني خلف النقاب أيضا، أخبرتني أن ذلك العجوز المتهالك الذي يرمق خطونا كل يوم قد تم بتر جزء كبيرا من ساقه التي كان يرفعها في جلسة اعتيادية في ظل المنزل خلف ظهره.
وكعادتي في سيرنا اليومي أسمعها وأسمع لحنا ما معلقا في أذني يشد انتباهي أكثر، وكعادتها لا تنتظر تعليقا، فتحكي قصة أخرى.
ذلك اليوم طلبت زميلتي أن نمر على منزل الرجل العجوز ذاته لأمر ما، لوجود معرفة وطيدة بين العائلتين.
وهناك في ظل المنزل كان جالسا كالعادة يحتكر الظل عاجزاً عن وضع بقية ساق مبتورة على الأخرى..
غابت زميلتي داخل المنزل، نظرت نحو الرجل المسن ورغبت في مشاطرته الظل هذه المرة، أو مشاطرته آلام الشيخوخة التي لا يسأل عنها أحد..
وكأنما قراء افكاري فهتف في صوت واهن:
-جي يا بنتي به معانا غداء جاهز وكل شيء موجود أدخلي أنت وصاحبتك..
ابتسمت خلف النقاب؛ واقتربت من الوجه المتغضن؛ كل شيء في ملامح الشيخوخة باهت بلا لون حتى الألم في عينيه التي تحدق فيّ بات باهتا، وابتسامته الخالية من كل الأسنان أشبه بنحيب صامت، قلت له بمواساة صادقة:
-ألف سلامة عليك يا جد كيف أنت الحين؟ يعوضك الله خير مما أخذ منك..
وكأنما أسعدته العبارة فهتف بحزن:
-ابصرتي يا بنتي حقنا الدكاترة على دواب قطعوا نص رجلي من أجل حبة صغيرة بصباع رجلي.. بس الحمد لله على كل حال..
قلت له وأنا احاول أن يبدو صوتي واضحا ومنخفضا أيضا:
-معلش يا جد هم قالوا أنها غرغرينا وبتطور لكل رجلك.. الف سلامة عليك..
هتف بوهن وقد التقطت حواسة المتبقية صوتي:
-ايوة قالوا.. الحمد لله على كل ما ادي ورضي..
أكثر ما يميز عجائز الريف هي تلك الصحة المتماسكة في حواسهم وإيمانهم الجميل..
لطالما أكبرت إيمان العجائز واخلاصهم..
يحمدون الله على كل شيء مهما كان قدرهم موجعا لا يضطرون لفلسفة احباط الحياة ولعن القدر على كل فشل أو عجز أو هزيمة حرب مع الأيام..
قطعت زميلتي ذلك التواصل الجميل بين ادراكين مختلفين وهي تشير لي أن الحق بها..
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.