كنت في زيارة لحضرموت الحضارة والتاريخ، وجدت في مكلاها عدننا التي نفقدها اليوم بالتدريج، وجدت عدن الخمسينات والستينات، عدن المدنية والثقافة والوعي وفسيفساء التنوع وأيقونة التعايش وألقها.
حدث بالطبع أنني سئمت واقع عدن البائس، سئمت أخبار الموت اليومي التي تحصد أخيار وأطهار عدن، سئمت إراقة الدماء وإزهاق الأرواح والانتهاكات لإنسانية للناس يوميًا.
غصة تؤلمني من أريحية حدوث كل ذلك في وضح النهار وعلى قارعة الطريق العام، سئمت كل تلك الضوضاء وكل ذلك الغباء، للثكنات العسكرية، والأطقم والحراسات الشخصية، موكب القائد الهموم المعكر لصفو الطريق، همام بفساده وعنفه والقطيع الذي يحرسه، سئمت وسِئمت عدن منظر شيوخ القبائل وأمراء العنف وقادة فصائل مليشيا وهي تقتحم صفو حياتها والسلم الاجتماعي وأمنها وأمانها، بثكنات عسكرية من مسلحين وأطقم ومدرعات، اقتحام مدمر لمدنيتها وثقافتها وتعايشها، لعسكرة المدينة، تعكيرا لفسيفسائها الجميل.
كنت في زيارة لحضرموت الحضارة والتاريخ، وجدت في مكلاها عدننا التي نفقدها اليوم بالتدريج، وجدت عدن الخمسينات والستينات، عدن المدنية والثقافة والوعي وفسيفساء التنوع وأيقونة التعايش وألقها.
رنّ التلفون ليخبرني بحادثة الدكتور العزيز عارف أحمد علي، ابن عدن البار وولده المهندس أحمد عارف، حادثة تفجير سيارتهم على الشارع الرئيسي في المعلى، حادثة هزت كياني وأندى لها جبيني، بإصابته وبترت رجل نجله، كتب الله لهم الحياة، ولا نامت أعين القتلة والمحرضين.
في لحظة استعرض لشريط الذكريات، هذا التلميذ النابغة والمثابر النشط الحيوي المؤثر بين زملائه في ثانوية 10 سبتمبر القلوعة في الثمانينات، مثله الكثير، كوكبة من الشباب كان رهاننا عليهم في نهضة وتطور عدن، لم تتح لهم الفرص الكافية لمهاراتهم وعقولهم لتنتج خيرا، ينتصرون لمدنيتهم وثقافتها وتنوعها وتعايش عدن، كانوا جميعًا شباب واعد، نرى فيهم مستقبل عدن والجنوب واليمن، بكل أطيافهم وأعراقهم وقبائلهم وألوان بشرتهم، لكن الجهل والتخلف والعنف كان أقوى وأشد وعوره، ما زال الصراع قائمًا، وسينتصرون لعدن.
استعرضت لحظة الفعل الثوري ومقارعة النظام الفاسد، في الانتخابات معًا في اللقاء المشترك، في مواجهة سياسة الغبن والاستبداد والدجل والخرافة للنظام الفاسد الذي دمر عدن والجنوب واليمن، وأوصلنا لما نحن فيه من مأزق وحروب مدمرة.
تذكرت مواقف الدكتور عارف كإنسان وطبيب وناشط وسياسي محنك ما قبل الحرب وفي الحرب ذاتها، والناس تعرف الحقيقة حتى وإن حاول أعداؤها طمسها، وما بعد الحرب صار مستهدفًا، ممن؟!
لا يستهدف الثورة والتغيير وأدواتهما غير الثورة المضادة بأدواتها المختلفة اليوم، بعد الغزو لمكونات الثورة، بدلًا من صورة الزعيم، يحملون اليوم علم الجنوب، ويعملون تحت رايته ما يشتهون، جماعة تتمحور مع المرحلة، كحرباء تنفث سمومها بين قوى الثورة، تشق الصف لتجد طريق العبور للقمة لاستعادة الحكم والحفاظ على المصالح، مستثمرة الجهل والتخلف والقهر والغضب العام لسحر الناس بشعارات جوفاء والهدف هو السلطة والثروة والاستبداد والهيمنة، تعمل معًا بمصالح مشتركة مع الأطماع كأداة رخيصة.
تواصلت مع الدكتور، وبدلًا من مواساته وسأني، وجدته متماسكًا شامخًا صلبًا، راضيًا بالمكتوب والقدر، متكلًا على الله، قائلًا: الحمد الله واسترجع فقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون)؛ وابشر بما وعد الله الصابرين المسترجعين فقال تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون).
هذا مثال للمستهدفين، من كوكبة من العقول، أئمة وخطباء مساجد الوسطية، وشباب الثورة والعسكر الذين يرفضون الخنوع والاستسلام للأطماع ومشروع عودة المستبد.
كلٌ حر في توجهه السياسي وقناعاته الفكرية والعقائدية، المهم حقًا هو السلوك الذاتي والعام، المؤثر على العملية السياسية والثقافية، العلاقة مع النظراء، اختيار صدى الأفكار والأفعال وردودها المتوقعة على الأرض ومن حولك.
هناك فرق بين الضحية والقاتل، كالثرى والثريا، الجهل والتخلف والشحن والتحريض والتبرير والكراهية والاتهام، في مواجهة العلم والعقل والمنطق والوسطية والحق، الخير يحصد خيرًا، والشر يحصد شرًا، وواقعنا ليس رهن القدر بل هو اختيار وقرار للبعض.
اللّهم جنب عدن شرهم وطيشهم وتهورهم وعنفهم واحفظها يا رب العالمين.
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.