كان الليل يشتعل في مشهد مأساوي بالغ البشاعة، عجزت عن بلوغه كل مآسي الانسانية التي صوَّرها الأدب الأغريقي وجسَّدها المسرح الروماني على مرّ التاريخ.
في لحظة فارقة، بالغة الجبروت في صِدَاميتها بين جمرة الذات ورماد الواقع، أقدم الأديب الفيلسوف الفذّ أبو حيان التوحيدي على تكديس كتبه وأوراقه ومخطوطاته في كومة واحدة، ثم أضرم فيها النار!
كان الليل يشتعل في مشهد مأساوي بالغ البشاعة، عجزت عن بلوغه كل مآسي الانسانية التي صوَّرها الأدب الأغريقي وجسَّدها المسرح الروماني على مرّ التاريخ.
وكانت الأضواء الناجمة عن الحريق تخفت شيئاً فشيئاً، كما تخفت جذوة الروح في الجسد الآيل إلى حتمية الموت، بعد صراع مرير مع الأمل الأخير في امكانية التشبُّث بخيط الحياة الأوهن من نسيج العنكبوت.
وفي أزمنة وأمكنة أخرى، تتكرَّر المأساة نفسها في مشاهد أخرى:
الإمام الصوفي داؤود الطائي يرمي كتبه في البحر لتؤول إلى مستقرّ الغرق.
الشيخ الجليل يوسف بن اسياط يحمل كتبه إلى غار في جبل ثم يسُدّ بابه عليها.
شيخ الاسلام سفيان الثوري يمزق كل مخطوطاته وأوراقه ويذروها للرياح.
العالِم الزاهد أبو سليمان الداراني لجأ إلى احراق كتبه على نهج التوحيدي.
أما العالِم النحويّ أبو سعيد السيرافي فقد أوصى ولده بأن يحرق كتبه اِنْ لم تعد عليه بفائدة من اكتساب معاش.
.
.
كانت الساحة الواسعة في أحد أسواق قرطبة تزدحم بالجمهور الذي جاء مشاهداً وشاهداً على واحدة من أقذر الجرائم في تاريخ الحكومات الاسلامية: حاكم يحتفل باحراق باقة خلاقة من الكتب هي ثمرة جهد وعصارة فكر واحد من أعظم الفلاسفة في التاريخ العربي والاسلامي بل وتاريخ الانسانية اجمالاً.
في تلك الساعة، وفي تلك الساحة، اللتين دخلتا صفحات التاريخ من بوابته السوداء، بوابة اللعنة الأبدية: كان أمير قرطبة وأشبيلية المنصور المُوحّدي يأمر باحراق مؤلفات الفيلسوف العالِم العظيم أبي الوليد محمد ابن رشد، في مشهد كرنفالي صاخب، كأنَّه الوجه الآخر لمشهد مسرحي خالد، حيث يُلقى بأناس مقموعين وأسرى مقهورين إلى حفرة هائلة يستقر في قعرها قطيع من السباع الجائعة أو التماسيح الشرهة!
وفي ختام المشهد الحرائقي، ذرَّت الريح الرماد الذي تحوّل إلى سماد في حقول العقول، على مرّ التاريخ الانساني، إلى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور وبجواري واحد من أعظم كتب ابن رشد.
.
.
لم يكن احراق أبي حيان التوحيدي لكتبه وأوراقه كافياً لابادته فكرياً. واِنْ كان هذا الأديب الموسوعي قد أخطأ في حق نفسه والأجيال من بعده، حين أقدم على اقتراف هذا الجُرم الشنيع، بعد أن بلغ به الاحباط والقنوط وشظف العيش حدَّاً قصيَّاً، حتى أنه صار يقتات من خشاش الأرض!
غير أن التاريخ قد أعاد تصويب هذه الحالة على نحوٍ بالغ الدلالة. فما وصل إلينا من المنتوج الابداعي للتوحيدي، حتى اليوم، هو النزر اليسير مما نجا من الحريق أو كان متداولاً بين النخبة المستنيرة قبل ذلك اليوم المشؤوم. وبرغم ذلك، ها هو أدب التوحيدي يملأ رحاب التراث ورفوف المكتبات.
والأمر ذاته ينطبق على آثار تلك الجريمة التي طالت المنتوج العقلي لابن رشد. ما الذي أسفرت عنه أو أدت إليه؟
لقد كانت النسخ المخبوءة بين ثنايا الأفئدة وفي أعطاف العواطف وتحت أهداب المُحبّين، كفيلة بانبعاث فينيق الفكر من رماد الحرائق، لينطلق عبر العصور وبرغم أنف القصور، حتى يصل إلى الساحات العامة والأسواق الشعبية ومقاعد الدرس، متجاوزاً حدود الزمان والمكان والحدث.
.
.
أيُّ سلطان ذاك الذي أستطاع يوماً أن يخمد جذوة التنوير في العقول، أو يقهر فكرة التثوير في القلوب؟
– لا أحد البتة!
– لماذا؟
لأن جسر الحضارة لم يُبْنَ يوماً من معدن أو خشب، إنما من أوردة وشرايين.
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.