الايجابيات والمحاسن التي جلبها التلفزيون لعامة الناس ونُخَبهم على السواء، رافقتها سلبيات ومثالب، من بينها اختراق كل ما هو مُتاح -ولو غير مُباح دينياً وأخلاقياً منذ أن انتظم بث التلفزيون في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي في لندن، وهو يدير الرؤوس ويخطف الألباب، حتى صار أخطر ظواهر العصر الحديث وأبرز ملامح الحضارة البشرية. وقد غدا لتأثيره سحر في النفوس، تجاه الصغير قبل الكبير، والأُمّي قبل المثقف، والنساء قبل الرجال.
احتوى هذا الجهاز السحري جميع العلوم والفنون والآداب والنشاطات الانسانية على الاطلاق. اِذْ راح العامة -مثالاً- يتابعون المناشط الرياضية، لاسيما مباريات كرة القدم وغيرها، من خلال الشاشة بدلاً من الذهاب إلى الملعب. وهم يشاهدون الأفلام والمسرحيات والحفلات الغنائية دون أن يُزحزحوا أقدامهم صوب دور السينما والمسرح وصالات الغناء والرقص. وصارت محاضرات كبار العلماء والأدباء والمفكرين تأتيهم من قاعات الجامعات والمنتديات الى مقاعدهم في بيوتهم وهم يدخنون أو يتناولون المأكولات والمشروبات.
وقد ازداد أثر وخطر التلفزيون يوماً اثر يوم، وراح يسحب البساط شيئاً فشيئاً من معظم أقنية ووسائط الثقافة والاعلام والتعليم عن بُعد. وقد بدأ يتخلَّق -أو يكاد- كتاباً اليكترونياً من قبل ظهور الكتاب الاليكتروني بعدة عقود، مثلما غدا جريدة بصرية وسمعية تتفوق في قدراتها وتأثيراتها على الجريدة الورقية من قبل عشرات السنين على ظهور ثورة الانترنت، حتى أن كبار الكُتَّاب والصحافيين راحوا يحزمون أوراقهم للانتقال من صفحات الصحف والمجلات الى شاشات التلفزة، ايماناً منهم بالكاريزما الطاغية التي يتمتع بها هذا الجهاز. وقد أسسوا حينها لظاهرة المتلقّي المُشاهِد بديلاً عن المتلقي القارىء، مُدشّنين عهد ازدهار الصحافة المرئية على حساب الصحافة المقروءة.
ومن الظواهر التي سحبها التلفزيون على الجريدة، الاعلان. وبالطبع فان الاعلان المرئي والمسموع معاً هو أقوى أثراً في وجدان المتلقي ووعيه وذائقته من الاعلان المطبوع أو الجامد على ورقة. ولكن بالرغم من أن وسائل وطرائق ومذاهب الاعلان المتلفز قد تطورت كثيراً على صعيد التقنية والفن، إلاَّ أنها تدهورت كثيراً أيضاً على صعيد القيم والمُثُل العليا والمنظومة الأخلاقية. وقد جاء اليوم الذي صار فيه كبار دُعاة العقيدة ينافسون ممثلات السينما ومذيعات التلفزيون في النجومية، بل وينافسون موديلات الاعلان في أرزاقهن، فيذهب أحدهم للاعلان عن الدجاج المشوي، ويروج آخرللقهوة الاكسبريسو، تاركين تقديم البرامج الدينية لراقصة مايصة!
غير أن الايجابيات والمحاسن التي جلبها التلفزيون لعامة الناس ونُخَبهم على السواء، رافقتها سلبيات ومثالب، من بينها اختراق كل ما هو مُتاح -ولو غير مُباح دينياً وأخلاقياً- البيوت عبر الشاشات.. فلم يعد هذا الجهاز صديقاً أميناً للعائلة، في ظل اقحام مواد بصرية وسمعية، اما خادشة للحياء أو مثيرة للرعب أو باعثة على التقزز والنفور وكل ما هو ضار أو مؤذٍ لوعي ووجدان وذائقة الناس وبالذات الأطفال والنساء. وقد غزت هذه المواد شاشات التلفزة بالضدّ من رغبة وارادة العائلة، في الوقت الذي تعمد دور السينما -مثالاً- إلى التنويه بعرض هذه المواد على شاشاتها تحت يافطة “للكبار فقط” حتى لا يُفاجأ مرتادوها بعرضها قبالتهم من دون سابق انذار.
غدا التلفاز سلاحاً ذا حدّين. وعلى المتلقي التعامل مع هذه القاعدة دون اعتراض أو اختيار. فاما الاستسلام واما الامتناع عن اقتناء الجهاز أصلاً. فقد صار الفضاء مفتوحاً على مصاريعه كلها. ولم تعد ثمة امكانية لمواجهة هذا الانفتاح المذهل والمرعب غير تقنين اقتناء واسطة الاقتناء والبث التي تتناسب مع خيارات الأسرة العربية والمسلمة، أو كما عمد بعض الناس إلى تشفير كل ما لا تُحمد عُقباها من قنوات وهي عملية مرهقة كثيراً وغير مُجدية غالباً!
الخلاصة، أن التلفاز لم يعد جهازاً مأموناً للأسرة وأقصد الأسرة المحافظة. وإذا كانت ثمة قنوات في بلاد العالم ما تزال تعمل بنظام الاشتراك (الكابل) حتى هذه اللحظة، فان هذه اللحظة مهددة بالتلاشي في زمن قريب لا محالة، في ظل النسف الحتمي لكل الكوابح والكوابل الماثلة قبالة الفضاء المفتوح -المفضوح. وحينها سيغدو التلفاز جهاز “العتبة جزاز” وكثيرون من جيل الستينيات -مثالاً- يعرفون معنى هذي الأغنية التي أنتشرت حينذاك!
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور