“تنتهي حريتك حين تبدأ حرية الآخرين”، عبارة يكاد يرددها أغلب المهتمين بقضايا الحرية، وأغلب من يخاف انفتاحها أيضاً، عبارة صحيحة يكاد لا يدرك عمقها أكثر أولئك الذين يتحدثون عنها، ولا أين تقال ولا كيف تكون، لذا تراهم يتجاوزن حريات الآخرين . “تنتهي حريتك حين تبدأ حرية الآخرين”، عبارة يكاد يرددها أغلب المهتمين بقضايا الحرية، وأغلب من يخاف انفتاحها أيضاً، عبارة صحيحة يكاد لا يدرك عمقها أكثر أولئك الذين يتحدثون عنها، ولا أين تقال ولا كيف تكون، لذا تراهم يتجاوزن حريات الآخرين ثم يرددون تلك العبارة، والسبب يعود إلى قلة اشتغال مجتمعاتنا ثقافياً على قضايا الحرية، وقلة اهتمام حكوماتنا في إدراج قضايا الحرية كمناهج دراسية في المدارس والحريات، وكأن الحرية من نافلة القضايا أو هوامشها، فما التي تعنيه تلك العبارة؟ وأين تبدأ حريتي وأين تنتهي؟ وكيف يكون إن تعارضت حريتي مع حرية غيري؟
سأبدأ أولا بمحاولة وضع تلك العبارة في المكان المناسب لها من بين الحريات، فهذه العبارة لا تختص بحرية التفكير إذ لا تعارض بين حرية تفكيري وبين حرية تفكير الآخرين، ولا يمكن أن يكون في تفكيري واعتقادي اعتداء أو تجاوز على حرية غيري، لذا يكون سقف الحرية هنا مفتوحا للجميع بلا أي قيد، فإذا ما شئنا أن ننقل نتائج ذاك التفكير إلى التعبير فإن حرية التعبير (قولا وكتابة) تنقص درجة في ذلك السقف المفتوح، فتكون الحرية مفتوحة بقيد عدم شتم الآخرين أو التحريض عليهم أو الدعوة للاعتداء عليهم، إلا إن كان بالمثل في حالة الشتم، أما حالة التحريض والدعوة للاعتداء فلا يكون بالمثل وإنما الأصوب أن تلجأ إلى القضاء لمقاضاته، فإن استخدمت الشتم أو السخرية أو الاستهزاء ضد من يحرض عليك أو يدعو للاعتداء عليك أو اعتدى عليك فلا بأس به، لأنك استخدمت ما هو أدنى ضد ما هو أكبر، لأن التحريض والاعتداء أخطر من الشتيمة والسخرية.
إذن فأقرب ما تكون تلك العبارة هي للنوع الثالث وهي حرية الفعل والسلوك، وقد اعتبرتها نوعا ثالثا برغم أن هناك من يرى أن التعبير فعلا وسلوكا، وأن كلاهما حرية واحدة، ولكن لأن قيود حرية التعبير أقل من قيود حرية الفعل، ولأن مساحة الاعتداء في الفعل أكثر منها في التعبير كانت نوعا ثالثا.
هناك معايير كان قد تكلم عنها الأصوليون عند حديثهم عن قواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد (وهي قواعد عقلية توجد عند كل البشرية)، قد تعيننا تلك المعايير على فهم حرية السلوك والفعل وحرية التعبير، هذه المعايير لن تحل المشكلة تماما وإنما قد تفتح أفقا ولو بسيطا للإنسان العامي الذي اختلط عليه الأمر، فصار لا يعرف أهم حق له في الحياة وهو “حق الحرية”، ذلك الحق الذي صار اليوم عند شعوب أخرى ثقافة راسخة لا تحتاج لمثل هذه التفصيلات، فبعد أن ناضلت تلك الشعوب لانتزاع ذلك الحق من المستبدين، حولته إلى قوانين يحتكم إليها الجميع، ثم تحولت تلك القوانين بفعل الايمان بها وتكرار فعلها إلى ثقافة وعادة يحميها المجتمع كله ويرى أن من يخل بها شاذا ومخالفا ويمارس سلوكا غير طبيعي، وقد يستغرب أولئك جدا إن رأوا في بلداننا من لا زال يخل بها، صحيح أن تلك المجتمعات لم تصل للغاية المثلى ولكنها قطعت شوطا لا بأس به جعلتنا نؤمن أن ذلك ليس في دائرة المستحيل. فإلى أن يكون فقه الحرية ثقافة وعادة علينا أن نبدأ في نشر الوعي حول تقنينها. وسأكتفي بوضع المعايير تاركا لمخيلة القارئ ضرب الأمثلة المناسبة فالمقال لا يتسع لضرب أمثلة لكل ما سيذكر.
معيار حقوق الله وحقوق الناس:
حق الله هو كل فعل أو قول تمارسه لتتعبد الله به، وترى أن الله أمرك به. وهذا لا يحق لأي أحد إلزامك به، أو بطريقة ما لتعبده، إلا عن طريق الاقناع فقط، ولست موكلا من الله لتدافع عن حقه أو تلزم الناس بالقوة بحقه، فالصلاة والصوم والحج والدعاء وكل الشعائر التعبدية وما رافقها تعتبر من حقوق الله القائمة بين الإنسان وربه على العفو، فالإنسان يستسلم لله وينفذ القول والفعل والله يتقبل ويعفو عن التقصير.
أما حق الناس فهو كل فعل أو قول تمارسه في إطار علاقتك مع الناس باعتبارك جزءا من المجتمع، وهذا الحق مبني على العدل بينك وبينهم فلا يحق لك ممارسة أي فعل قد يضرهم أو يؤذيهم، أو يشق عليهم، أو يفسد عليهم شيئا جميلا في حياتهم. وهذا يقودنا إلى تفصيل مراتب الأفعال التي يتم فيها الاعتداء على حرية الأخرين إذ ليست كلها على درجة واحدة، حتى إذا ما تعارضت حريتك مع حريتهم قدمت أهم الحريتين.
معيار الأهمية:
تكاد تنحصر أفعال الإنسان في حياته على ثلاثة أفعال مرتبة بحسب أهميتها كالتالي: أفعال ضرورية تحفظ حياته وبفعلها يستمر في البقاء، سواء بقاؤه الحسي بحفظ نفسه، أو بقاؤه المعنوي بحفظ عقله وماله، فلا تُقتل نفسه ولا يمرض جسده ولا يفقد عقله كله ولا يؤخذ ماله، وأفعال حاجية تزيل عنه المشقة والتعب في الحياة، فلا يقع في المرض الخفيف ولا يؤخذ بعض ماله، وأفعال تحسينية تزيد في حياته البهجة والجمال.
فإذا تعارضت أفعاله الضرورية مع أفعال غيره الحاجية قدمت أفعاله، سواء كان غيره فردا أو مجموعة أفراد، وإذا تعارضت أفعاله الحاجية مع أفعال غيره التحسينية قدمت أفعاله، سواء كان غيره فردا أو مجموعة أفراد، وكذلك الناس إذا تعارضت أفعالهم معه فيقدم الضروري على الحاجي والحاجي على التحسيني، هذا إن كان التعارض غير قابل للجمع بين تحقيق مصلحة الجميع بعمل أفعالهم جميعا.
معيار الكثرة:
فإذا ما تعارضت الأفعال داخل المرتبة الواحدة بعد أن حاولنا قدر الإمكان الجمع بينها فإننا ننتقل للمعيار الثاني وهو “معيار الكثرة”، فالفعل الذي يحقق مصلحة لأكثر عدد من الناس يكون هو المقدم حتى لو ترتب عليه فقدان مصلحة الفرد بتوقف فعله، فالفعل الضروري لفرد واحد إذا كان سيتسبب في إفساد أفعال ضرورية لمجموعة من الناس يوقف حتى لو أدى لضرر الفرد ذاته، والفعل الحاجي لفرد واحد إذا كان سيتسبب في إفساد أفعال حاجية لمجموعة من الناس يوقف حتى لو أدى لمشقة الفرد ذاته، وهكذا في التحسيني.
أما إن تساوى الفعل الضروري بين الجميع، وكان صدوره من الجميع سيسبب ضررا لهم جميعا، ولم يكن هناك من حل للجمع بين مصلحتهم، كان لابد حينها لأحدهم أن يضحي لأجل المجموع، وهنا نلجأ لخيار “التخيير أو القرعة” فنكون كمن كان في سفينة قاربت على الغرق وكان لابد لأحدهم أن يضحي لأجل إنقاذ المجموع. ومثله تعارض الفعل الحاجي وتعارض الفعل التحسيني.
معيار التحقق:
قبل ذلك كله ينبغي النظر والتحقق لما يترتب على الفعل من ضرر أو مشقة أو نقص جمال على الآخر، هل ما سيترتب على فعله متحقق فعلا أم لا؟ هل تحققه قطعي أم ظني أم وهمي، فيقدم القطعي على الظني والظني على الوهمي.
أخيرا لا أنسى أن أنبه عن حق قد يضيع بين هذه الحقوق لأنه ليس خاصا بفرد بعينه أو بمؤسسة، وإنما هو حق عام يخص المجتمع ككل، ومثال ذلك ما تملكه الدولة من أي نوع من أنواع الممتلكات، والاعتداء على هذا النوع اعتداء على كل فرد في المجتمع لأنه ملك الجميع، فالدولة كيان معنوي، وحقيقة ملكيتها هي ملك لكل فرد في المجتمع، فالنهب والسرقة والاعتداء على ملكيات الدولة هو اعتداء على كل فرد فيها، وهو ما تتساهل فيه مجتمعاتنا للأسف لقلة الوعي حول ذلك الحق، ولقلة الوعي في طرق الحفاظ عليه، وسواء كان ذلك الحق العام كبيرا كثروات النفط والغاز وأموال البنك المركزي أو صغيرا كمقعدٍ في حديقة أو مؤسسة.