قبل أن يغادر (صبري) لأداء مهمته التي كلف بها ذهب إلى بعض أصدقائه ومن يعتبرهم أساتذته في المقاومة ليودعهم ويوصيهم بالبحث عن (عم عبده) ويهمس بآذانهم أين يمكن أن يجدوه. قبل أن يغادر (صبري) لأداء مهمته التي كلف بها ذهب إلى بعض أصدقائه ومن يعتبرهم أساتذته في المقاومة ليودعهم ويوصيهم بالبحث عن (عم عبده) ويهمس بآذانهم أين يمكن أن يجدوه، فهو يعتقد أنه في الجبل، وأنه ضحية سوء فهم أو سوء تفسير بسبب الجو المشحون بالتوتر والتوجس.
زار صديقه عمار وسليمان والعم هائل وعبد الملك ومحسن الغشم وعبد العقبي.
كان صبري يقول للمقاوم (عبد العقبي) يا عم (عبده) أنت ممن استمد منهم قوتي بعد الله..
كان (العقبي) قادما من مديرية (عتمة) في محافظة ذمار، جاء إلى الجبل كغيره من رجال الجيش الوطني الذين ينظرون إلى الجبل باعتباره نقطة مكثفة لليمن والجمهورية.
يقول القائد ( خالد): هناك قصة مثيرة عن قدوم (العقبي)، فقد أرسل ولديه إلى الجبل في بداية المقاومة، وأثناء صد الهجمات المتتابعة على الجبل سقط أول شهيد من أفراد الجيش الوطني، وهو الشهيد (عبده السويدي) من (عتمة)، وأثناء تشييع جنازته ونقل جثمانه إلى مسقط رأسه، ذهب معها ابنا (العقبي) وهو ما أغضب والدهما واعتبر ذلك تفريطا بالجهاد.
قال أحد أبنائه: نحن استأذنا في المشاركة بدفن الشهيد وسنعود يا أبى.
لم يتأخر (العقبي)، كثيرا ليعود هذه المرة بصحبة ولديه إلى الجبل، وكلف بقيادة الدبابة.
كان قائد دبابة ماهر وبشجاعة استثنائية.
يقول القائد (خالد): أحيانا كان الأفراد يجبرون على الانسحاب تحت كثافة النيران المهولة، وأحيانا نأمر نحن بالتراجع لكن (العقبي) وأمثاله الذي اطلق عليهم مؤخرا (صخور الجبل) ويعود لهم الفضل في انقاذ الجبل في اللحظات الحرجة، لا يعرفون كلمة تراجع.
في إحدى المرات كان الهجوم فوق الوصف، استشهد الكثير بما فيهم الشهيد البطل (محسن الغشم)، وجرح آخرون منهم القائد (منصور)، قائد الجبل حينها، انسحب الأفراد من الموقع تحت كثافة نيران جارفة، وبقى (العقبي) يضرب بمدفعيته وزميله يضرب بالرشاش وابنه يسوق الدبابة، انسحب زميله من فوق الدبابة مع المنسحبين، وبقى (العقبي) يصد الهجوم بشكل أسطوري ويضرب بمدفع الدبابة ويصعد ليضرب بالرشاش المثبت فوق الدبابة، ثم يعود ويضرب بمدفعها، وهكذا، يتحرك صعودا وهبوطا وبأعصاب باردة، وثبات عجيب بين نيران مصبوبة من كل مكان، تشيب الصغير وتذهل الكبير!
استطاع أن يفشل الهجوم الذي كان يمكن أن يغير المعادلة.. لقد كان صمودا في اللحظة الحرجة.
كان الشهيد (محسن)، الذي استشهد بنفس المعركة يتحدث دائما عن السيطرة على اللحظة الحرجة في أي هجوم، وأن أي هجوم مهما كان، لا يستمر وهو ينكسر لو تم امتصاص الاندفاعات الأولى وسيطر المدافعون على اللحظة الحرجة عند النهاية، وهذه يصنعها في الغالب أفراد لا يعرفون الذهول.
عندما ودع (العقبي) الشاب (صبري) قبل المعركة قال له: يا(صبري) سأرحل إلى الله وأنا مطمئن على الجبل، واطمئناني على الجبل يعني اطمئنان على اليمن؛ لقد مكثت في الجبل ما يكفي لأرحل إلى الله و أنا مسرور ومطمئن بك وأمثالك، وهم هنا كثيرون.
وكانت وصيته لأولاده: موتوا مرفوعي الرأس!
يقول القائد (خالد) و بين مئات القذائف التي استهدفت الدبابة والجبل و أثناء تكبير الجبل بالنصر سقطت قذيفة على دبابة (العقبي) ليسقط شهيدا، وكأنه اختار لحظة الشهادة بنفسه وبدقة، بعد أن اطمأن وشاهد فرارهم بعينه واندحار الهجوم.
وبقى أبطال اللحظة الحرجة أو (صخور الجبل) يقودون المسيرة في كل لحظة، وكل موقع.
يقول القائد (منصور) عن المعركة المفصلية التي سبقت هذه المعركة بشهر وحدثت في 13 شعبان قبل الماضي في بداية المقاومة: إن الفضل يعود بعد الله للشهيد سليم المشرقي، والشهيد عبدالله محمد عبد العزيز في انقاذ الجبل من السقوط حينها، الذي كان يعني سقوط المدينة.
ومثل العقبي استشهد (سليم) و(عبد العزيز) نهاية المعركة، بعد أن حققا النصر وانقذا الموقف.. (سليم) من المحويت، و(عبد العزيز) هو شخصية اجتماعية وشيخ من (مشرعة وحدنان) بتعز، يتجاوز الخمسين من عمره، لكنه شعلة من نشاط.
قبل أيام من استشهاده كان حزينا لأنه أراد أن يبدأ المقاومة في مشرعة وحدنان لأهمية موقعها على المدينة ولتخفيف الضغط على مقاومتها، غير أن قيادة المقاومة أخبرته بالتريث، فلم يحن الوقت بعد..
وحتى يحين الوقت ذهب إلى الجبل فمثله لا ينتظر .
فقد كان عائدا من معارك عمران والجوف بصحبة صانعي المجد أمثال (محمد الصهيبي)، أول شهداء مقاومة تعز الذي كان عبد العزيز يتحدث عنه بإعجاب شديد، فهو رفيقه في مأرب والجوف وعمران.
يقول القائد( راشد) في ليلة استشهاد الأستاذ (عبدالله عبدالعزيز) رزق بمولود، وعندما جاء الخبر إلى زوجته التفتت إلى المولود وهي تقول: لقد ولد عبد الله الليلة!
ثم أخرجت (الشال) الذي يتعمم به الشهيد بالغالب وأعطته لولدها البالغ من العمر 13 عاما وهي تقول له: أنت بدل أبيك، وألبسته الآلي ليستقبل العزاء ويلقي كلمة هزت الجموع.. عن والده وإكمال المشوار.
يقول القائد (يوسف): لم يكمل المشوار ابن الشهيد عبد الله وحده، وإنما أكمل المشوار نساء ورجال مشرعه وحدنان وصبر، ومازالت قرى تعز وحاراتها تكمل المشوار، ومازال أبطال اللحظات الحرجة يتوالدون في كل يوم وفي كل موقع ويضيف القائد (عبد الكريم) معلقا:
كلما غاب ثائر تنبت الأرض ألف ثائر.
8
عندما عاد صبري من مهمته اتجه إلى بيت (عم عبده) فوجده هناك فرح عم عبده بصبري وأعد له عشاء.
سأله صبري:
_ أين كنت؟
_ أنا هنا.
–اين ذهبت؟ ومن الذي أخذك؟
— خلينا أعملك عشاء.
— لا مش كل مرة تتهرب، أشتي أعرف أين كنت ومن هم، حتى لا أشك هل تشتينا أشك؟
توقف( العم عبده ) عن تقليب الفاصوليا و هو يقول عادي كنت ضيف عند أصحابك.
— هل أذوك؟
_ لا أبدا.
_ طيب منهم أصحابي؟
_ أصحاب سعيد أخذونا لا عنده وثلاث وساعات وتركونا.
_ والله كنت أشك بسعيد هذا التعبان.
_ لا سعيد مش تعبان هو على حق أنا يعجبنا سعيد و قلتوا لهم احبسونا أنا لن أقدم ولن أوخر، وبعدين أنا محبوس محبوس منذ أربعين سنة.
لكن جاء القائد واعتذروا لي والله أن (سعيد) يعجبنا، أنتم في حرب ياصبري.
— والله إنك عجيب يا عم عبده.
بعد العشاء لاحظ (صبري) صور عبد الله عبد الوهاب الفضول ونفس صورة المرأة والطفل الذي رسمها في الجبل.
_ صورة من هذه؟
_ صورة الفضول ما تعرفوش؟
_ هذه صورة الفضول تمام و أنت تحب أغاني أيوب طارش التي هي أشعار الفضول لكن هذه الصورة المرأة والطفل من هي أمانة؟
متجاهلا السؤال التقط (عم عبده) سكينا صغيرة من جيبه وأخذ ينقش شوكة في رجله اليسرى وهو يقول هذه شوكة بنت (….) اتعبتنا.
عندما رآه يحاول نزع الشوكة بأسنانه قال له لحظة لحظة عم عبده، شانقش لك، لكنه أخذ يعارك الشوكة بأسنانه متجاهلا كلام صبري بالمساعده حتى نزعها.
صبري: ليش ياعم عبده متشتيناش أساعدك الله المستعان؟
_ شوف يا ابني، شانصحك إذا شوكت شوكة انزعها بيدك أو بأسنانك طالما و أنت تستطيع و لا تطلب من أحد ينقش لك لأنك لو سلمت رجلك لواحد ينقش لك … الشوكة شتكتسر برجلك و بعد (من عمله بيده الله يزيده)!
يعني أنت تسا عد الناس وتخدمهم وما تشتيش أحدا يخدمك يعني متكبر.
–أعوذ بالله من الكبر، بس قبل ما تخدم الناس اخدم نفسك، الذي ما يعرفش يساعد نفسه لا يعرف يساعد الناس والذي ما يخدمش نفسه لا يستطيع خدمة الناس.
–والله إننا استمتع بكلامك، أنت كبير عم عبده.
_أنا فرح بك و بأصحابك.
يا صبري.. ثم فتح شنطته الحديد وأخرج صرة فتحها وأخرج منها حبيبات بيضاء وأعطاها صبري.
_ إيش هذا؟
_ هذا لبان (شحري) مر بس مليح.
أمضيا وقتا ممتعا كصديقين قريبين رغم فارق السن؛ فصبري لا يتعدى عمره العشرين، فيما عم عبده في عقده السبعين، لكنه كمن وجد في(صبري) شبابه، بل هو أخبره ذات يوم بأن وصول المقاومة أعاد لي الأمل، أما أنت فقد لملمت لي جراحي ووضعت عليها بلسما؟
جهز مكان النوم أخرج الطراحة المخبأ و غطى بها (صبري)، ثم أخذ مصحفا قديما من (الرف)، وذهب يقرأ كعادته قبل النوم.
لاحظ صبري قدم المصحف فقال:
يا عم عبده هذا المصحف قديم بكرة باجزع لك مصحفا جديدا.
_ لا أنا ما أعرف إلا هذا المصحف، هذا المصحف صاحبي من زمااان، وسيبقى معي حتى الموت ولا أعرف ( أتحزب) إلا به.
–كيف( تتحزب ) يعني ترجع حزبي ههههه
_ أتحزب أقرا؟.. مو يقولوا عندكم؟
( اتحزب تعني في قرى تعز (اتلوا).
عندما غفى (صبري) أنهى عم عبده القراءة واقترب من صبري وغطى جسمه كأب أو أم تريد لطفلها أن ينام بعمق.
لم يمض وقت طويل، حتى بدأت أصوات المدافع والصواريخ تتساقط على الجبل، وبعدها بدأت أصوات اشتباكات، وعندما زادت الاشتباكات نهض صبري الذي كان يحسبه عبده نائما، نهض ليأخذ سلاحه.
قال له العم عبده: نم يا (صبري) مش (زامك) ولا (نوبتك)، وبعدين قلت عندك إجازة الليلة.
صبري: عم عبده عندما يهاجمنا الأعداء تنتهي حكايات الإجازات.. إحنا مش موظفين هنا!! ويخرج.
_ الله معك يقول عم عبده، ويخرج معه إلى خارج البيت، ثم عاد وهو يتمتم و يردد بعض كلمات (صبري) عند خروجه بإعجاب.
..(عندما يهاجمنا الأعداء تنتهي حكاية الإجازة)..(..نحن مش موظفين).
..أيوه أنتم مش موظفين مش موظفين ويقترب من المرآة المعلقة بجانب الفانوس، ليرى صورته، يحدق فيها وتجاعيد الزمن مليا ثم يتحدث مع نفسه:
أيوه ياعبده، هذولا مش موظفين، هذولا أبطال، أنا حميسهم وفداء لترابهم؛ أينما كانوا ومن أين خرجوا؟
الله… وا عبده عشت وشفت ما يسرك.
…اليأس خيانة، وعبده ما زال هنا يحدث صورته في المرآة المعلقة على الحائط؛ لم يستطع النوم، فخرج خارج البيت يشاهد المعركة المهولة وغير المسبوقة، ينتظر نتيجة المعركة وعودة (صبري) على أحر من الجمر.
يتبع،،،،