الصوم هو أحد الشعائر التعبدية في دين الإسلام، تلك الشعائر التي تمثل إحدى الشعب الثلاث لهذا الدين، وهي العقيدة والشريعة والشعائر الصوم هو أحد الشعائر التعبدية في دين الإسلام، تلك الشعائر التي تمثل إحدى الشعب الثلاث لهذا الدين، وهي العقيدة والشريعة والشعائر، فالعقيدة تختص بتصور سليم لعالم الغيب، والشريعة تختص بتنظيم علاقة جيدة في عالم الشهادة، أما الشعائر التعبدية فإنها تربط بين عالمي الغيب والشهادة, فتحقق غايات في عالم الغيب وغايات في عالم الشهادة، وبهذه الشعب الثلاث يحصل للإنسان الانسجام الكامل مع هذا الكون في شقيه الغيبي والمشاهد.
والشعائر التعبدية حسية في حركاتها وأفعالها وأقوالها، غيبية في أبعادها واختيار زمانها وهيئتها وطقوسها وأعدادها، فنحن نصلي ونصوم ونحج بأفعال محددة مدركة، ولكننا لا ندرك لماذا اختار الله تلك الطريقة ولا ذاك الزمان ولا ذاك المكان ولا ذاك العدد…الخ. وهذا جانب –أي الغيبي- نذهب فيه للتسليم في الفعل، ثم بعد التسليم نبحث في الغايات والمعاني التي نتعلمها من تلك الشعيرة.
من يتأمل الجامع المشترك بين شعائر الصلاة والصوم والحج سيجد أنها تمنع المؤمن مما هو حلال له لوقت محدد وبصيغة محددة, ففي الصلاة امتناع عن الكلام إلا بالذكر, وفي الصوم امتناع عن الأكل والشرب والجماع, وفي الحج امتناع عن الملبس المعتاد والعطر …الخ, فلماذا مُنع المؤمن عن الحلال لفترة معينة في كل نوع من تلك الشعائر؟
أكرر مرارا إن أعظم قيمة منحها الله للإنسان هي “الحرية”، وذلك كي يعبده حرا مختارا لا مكرها، فيُسأل ويحاسَب على اختياره ذاك في الآخرة. فالحرية في المنظور الإسلامي ليست حرية فقط وإنما هي حرية مسؤولة، ومسؤوليتها أخروية لا دنيوية إلا فيما يخص حقوق الناس، وهذه المسؤولية هي السر في أن السموات والأرض أبين أن يحملنها وحملها الإنسان، فهو وحده الحر من بين المخلوقات وهو وحده من سيُسأل ويُحاسب في الآخرة، فالحرية هي الأمانة التي حملها الله للإنسان كان الاعتداء عليها هو أعظم القبائح والذنوب، فمن يعتدي على حرية الناس ويكرههم بشيء فإنه قاطع طريق بينهم وبين الأمانة التي حملهم الله بها، لأنهم بهذا يسقطون الشق الآخر للحرية وهو المسؤولية، فالمكره لا يسأل ولا يحاسب ولا يعاقب.
لما كانت الحرية بهذه الأهمية جاء الدين بتعاليم ليحميها من أي استبداد أو إكراه، خفي أو علني، داخلي أو خارجي، قد يقف حائلا أمامها وأمام اختياراتها. فكانت رسالة القرآن إلى الإنسان أن “ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى” بل لتسعد، وجعل من أهم حقوقه حق الحرية في التفكير وفي التعبير، فأعلن أن لا أكراه في الدين، وأن من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وأن للناس حق اختيارهم للإيمان أو الكفر، مع حسابهم في الآخرة وجزاءهم إن هم اختاروا طريق الكفر والباطل والشر والطغيان.
يتحدث الفلاسفة عن نوعين من الحرية كحق للإنسان في هذه الحياة، حرية خارجية وحرية داخلية، أما الحرية الخارجية فهي أن لا يقف أمامه أي عائق في حرية التعبير والسلوك المنضبط داخل دائرة حقوقه، وحقه في أن تتاح له الفرص كي يحقق ما يريد في إطار المساواة، فإن وقف أمامه أي عائق سعى بكل جهده لإزاحة ذلك العائق وأخذ حقه في الحرية كاملا، وهذا ما تناضل من أجله الشعوب ضد المستبدين أينما كانوا وضد أنواع الاستبداد كيفما كان. أما الحرية الداخلية فهي أن يتخلى الإنسان من القيود الفكرية والجهل والخوف وكل ما يسيطر عليه ويستبد به من داخله، فلولا تلك القيود والعوائق لكان أكثر إبداعا وإدراكا ووعيا. وكلما قلت تلك القيود انطلق في التأمل والتفكر والاستنتاج والاستقراء في القضايا التي يعيشها بصورة أكبر.
فالجهل استبداد والعلم حرية، إذ كلما عرفنا شيئا كانت حريتنا في التحدث عنه والابداع فيه أقوى، والإدراك والوعي حرية واللإدراك واللاوعي استبداد، إذ كلما أدركنا ماهية الاشياء تحكّمنا بها أكثر وكلما قل إدراكنا لها تحكمت بنا أكثر. والمقولات الحاكمة التي ورثها من ثقافة بيئتنا دون اختبار صحتها هي أيضا استبداد والخروج من قفصها والتفكير خارجها حرية..
تلك كانت حرية العقل وهي التي عنها الفلاسفة تحت نوع الحرية الداخلية إلا أن هناك قسم آخر يدخل ضمن هذا النوع وهو حرية الروح، تلك الحرية التي تحدث عنها المتصوفة وكتبوا عنها كثيرا، إلا أنهم قالوا أن العيش في ظلها وما يشعره الإنسان إن أدركها لا يمكن وصفه بالكلمات ولابد لمن أراد إدراكها أن يعيش تلك الحالة من الصفاء والسكون.
صحيح أن كل فريق من السابقين (الفلاسفة والمتصوفة- البرهانيين والعرفانيين) ربما يرى ما عند الآخر دروشة أو عبثا، إلا أني مؤمن بقدر ما من الصحة عند كل فريق، وأنه كما نحن بحاجة لحرية العقل فإننا بحاجة أيضا لحرية الروح.
تكون الروح حرة حين لا تستبد بها العادات والشهوات والملذات، وتكون الروح حرة حين تكون إرادتها قوية فتتحكم بتلك العادات والشهوات والملذات، وتكون الروح حرة حين تصفو وتزكو وتسكن، فإذا كانت كذلك كان سهلا عليها التقاط إشارات المعرفة، أما إن استبدت بها العادات والشهوات والملذات وضعفت إرادتها فإنها تكون أقل حرية.
وإذا كانت الروح أقل حرية فإنها أيضا تقفد بصيرة المعرفة، تلك البصيرة الناشئة عن تكامل الروح النقية الصافية مع العقل الذكي المشتعل، ومَثلهما في ذلك كمثل الزجاج الصافي الذي يحفظ شعلة اللهب المضيئة، فشعلة المصباح تضيء والزجاج يحمي الشعلة من هبات الرياح ويساعدها على توزيع الضوء بشكل جيد في جميع الاتجاهات، وهذا هو دور الروح مع العقل معا في المعرفة.
هكذا إذن يكون المؤمن هو أكثر الناس حرية في هذا الوجود إن تكاملت لديه كل تلك الحريات، فالقانون يحمي حريته الخارجية من استبداد إنسان آخر به سواء كان حاكما أو ما دونه، والعلم والمعرفة تحمي حرية عقله من استبداد جهله به، ثم تأتي ممارسة الشعائر -بروحها ومقاصدها- لتحمي روحه وإرادته من استبداد الضعف به، فالحر المدرك قوي الإرادة هو أكثر الناس تحققا بالحرية في هذه الأرض، وبالتالي فهو أكثر حكمة وانسجاما مع هذا الكون.
والصوم هو أحد الشعائر التعبدية التي تنمح المؤمن حرية الروح، فالصائم يمتنع عن بعض الأكل والشرب والجماع لنهار كامل طوال ثلاثين يوما، يجاهد فيها نفسه ويصبرها، فتتقوى إرادته فيكون هو المتحكم بعاداته وسلوكياته.. تأملوا معي كيف يكون الماء والأكل أمامه وهو جائع وعاطش، إلا أن إرادته تقول له لا، فيكون حينها قد امتلك القدرة والتحكم بقراره، وهذا فارق مهم بينه وبين الحيوان الذي لا يستطيع عمل ذلك، فإذا جاع لحيوان أكل وإن عطش شرب، ولا يمكن أن يرى الماء أمامه وهو عاطش ثم لا يشرب، فكما افترق الإنسان عن الحيوان بالحرية في نوعيها السابقين فإنه أيضا يفترق معها في هذا القسم من الحرية.
إن قوة الإرادة تلك ستجعله يترك الحرام ويجتنبه بسهولة.. وستجعله أكثر تحقيقا لأهدافه وطموحاته في هذه الحياة، فما تقدم ونجح في هذه الحياة إلا أولئك الذين قوت إرادتهم حتى لو كانت أجسامهم مشلولة..
إن حرية الروح ستجعل من الإنسان أرضا خصبة لأشجار المعرفة ومن ثم لقطف ثمار الحكمة.