ذكرياتنا ذلك العالم العجيب الذي لا ندري هل هو من يسكننا أم نحن من نسكنه؟! ذكرياتنا ذلك العالم العجيب الذي لا ندري هل هو من يسكننا أم نحن من نسكنه؟!
هل هو جزء منا أم نحن جزء منه؟! إنها أشبه بالحديقة السرية في بيت عائلتنا القديم؛ نشعر بالحنين إليها لكننا نخاف من كل تلك الأشياء التي أخفيناها فيها.. أشياء عزيزة علينا لكنها قد تحمل الكثير من الوجع لنا، لذا نحاول الهرب منها.
ذكرياتنا قد تصبح غول يدمر يومنا ومستقبلنا.. سجن كبير يحبسنا طوال أعمارنا بالحزن والشك والخوف.. فالذاكرة وعاء مثقوب فوق القلب كلما نزفت غرق القلب، لذا فالنسيان نعمة عظيمة كما هي الذاكرة نعمة.
بدون النسيان يأتيك الغد مفخخاً بالهموم..ثقيلا كهزيمة أب، أسوداً كفوهة مدفع، بائساً كجيب مشرد، مليئاً بهم.. غريباً لا يحملك..
يوماً بعد يوم تدرك أن عليك أن لا تحتفظ بذكرياتك التي تستنزفك.. عليك أن تتحرر.. و كما أوصى أحدهم: ردد لعقلك مراراً.
إنس اليوم أحزانك البسيطة لتنسى غداً أحزانك العميقة..
إنس اليوم هزائمك الصغيرة لتنسى غداً هزائمك الكبيرة..
إنس اليوم قسوة عدوك لتنسى غداً وجع صديقك..
إنس اليوم كلمة عاتبة لتنسى غداً كلمة جارحة..
إنس اليوم وجبتك لتنسى غداً جوعك..
إنس اليوم نصف جملة لتنسى غداً الجملة كاملة..
إنس الرحيل.. الوداع.. الدمعة التي ولدت وحيدة وجرت وحيدة و سقطت وحيدة..
إنس العالم الذي جئت اليه وحيداً و ستتركه وحيدا..
إنس الكلمة التي شطرت قلبك و كوَّنت لك وطنين..
إنس الموت الذي حضر فجأة وأخذ حشاشة قلبك..
إنس العين التي عمِيت عن بيضاك..
إنس الأذن التي صمَّت عن شكواك.. الكتف التي خذلت ضعفك.. المرآة التي أعادت لك وجهاً لا يشبهك.. اللسان الذي يبس يوم أن شوهوك..
إنس الذي وهبته عمراً ووهبك حزنا أبدياً..
عليك أن تنسى..
علم عقلك أن يدع تلك الذكريات تطير مع الرياح…العقل يرسم لكل فكرة و مشهد خطاً عصبياً رفيعاً يمر على حراس البوابات فيه، حين يكون أول عبور للفكرة يقوم الحراس بتعسير التفتيش عليها فيصبح مرورها صعباً، لكن استحضارك للفكرة و تفاصيلها يجعلها تعبر عدة مرات فيَعْتَادُها الحراس و يُسهِلون مرورها مراراً و تكراراً، عند ذلك يُصبح ذلك الخط- يوماً بعد يوم- أغمق و أعمق حتى يتحول لأخدود ينحت شكل نفسك و يتأصل فيها.
إذن، لا تستحضر تلك الذكرى حتى ولو على سبيل الذم أو الكراهية أو الشكوى، لا تلتفت إليها، دعها تبهت هناك في المهملات بعيداً في قاع ذاكرتك، بالنسبة لعقلك التذكر هو التذكر حتى لو كان على سبيل الرفض، الإهمال للذكرى وتهميشها هو من سيجعلها تتلاشى من وعيك وتزول.
يجب أن تركز على أولوياتك الآن، عليك أن تتابع حياتك بعيداً عنها فهي لن تنفعك مهما كانت في نظرك.. فذكرياتنا المتعلقة بأشخاص أعزاء هي الأكثر عمقاً وإيلاماً لنا لذا لابد من التحرر منها أولا، ومهما بدت لك عزيزة ومتجذرة داخلك عليك أن لا تتمسك بها.. قم بتكسير الروابط التي تثبتها في أعماقك “الروابط هي أشياء تثير الذكرى بقوة مثل مكان معين أو رائحة مميزة أو طعم أو صوت أو كلمة.. الخ”، ابتعد عن هذه الروابط أو قم باستبدال كل رابط من هذه الروابط برابط آخر.. ففي النهاية لا يمكن أن تمحو جراح ذكرى سيئة لشخص ما إلا ذكرى جيدة لشخص آخر.
واظب على طرد ذكرياتك المحبطة لك من بالك، واظب على التفكير فقط بما يهمك من الحاضر ..من المستقبل.. من أمنياتك.. من أشيائك الجميلة.. من عزماتك.. من الممكن.. من الذين يحبونك.
واظب.. ويوماً ما ستتحرر وتنعم بالنسيان وتعلن بارتياح:
الحمد لله لقد نسيت…
نسيت ألم رحيلهم.. خطأهم.. وجع خيانتهم.. الكلمة الجارحة.. الأمكنة الضاجة بهم..
نسيت سر المجلس و بوح الصديق، الفشل والسقوط..
نسيت حبك الجامح.. كلماتك العذبة.. عينيك المتقدتين.. نسيتك..
نسيت طلقة الرحمة (أنتِ طالق)..
وهمسك الأول.. وتفاحة قضمناها سوياً..
نسيت سكينك المغروز في ظهري.. وطوق النجاة التالف..
نسيت وحشة الظلام والسرداب الطويل.. وعجز الحبيب.. وبهتان القوي..
نسيت رائحة لحمي في أفواههم..
نسيت شعرتي البيضاء الأولى… رحيل الأحبة الذي كساني المزيد منها..
لقد نسيت أخطائي وذنوبي وبدأت جولة جديدة ..
نسيت ما كان يُكبِلني.. ما كان يرعبني..
الحمد لله خالق النسيان سلطاناً يجبر الكسر و يمحو الصدع.. فاتحاً للآفاق و معلناً ميلاد الغد هبة غالية لا مثيل لها.
من الآن و صاعداً.. آمن أن الحياة لا تحتمل كل هذا الزحام في كيانك المسكين…لذا خفف أحمالك لتكمل المسير ..
ودوماً لا تنسى أن تنسى..