كتابات خاصة

بين الترجمة والتعريب.. حِجاج في اللغة

سامي نعمان الأثوري

الاعتزار باللغة أمر محمود ودليل عافية وصحة في الانتماء؛ ولكن إدخال ذلك ضمن المقدسات والتعصب المبالغ فيه بعيد عن السلوك العلمي وأقرب إلى البهرجة الخادعة والتضليل المذموم.

وإن تعجب فعجب أن تزعم كل أمة القداسة للغتها وتدعي بأنها لغة أهل الجنة، أو أنها أفضل اللغات، هكذا فعل العبرانيون والسريان والعرب كذلك، وذلك كله آية واضحة من آيات الإفراط بالاعتزاز باللغة من غير هدى ولا عقل ولا كتاب منير! كما أنه خارج أسوار العلم أو السلوك العلمي في النقاش الذي يقتضي الموضوعية والتجرد ويهدف للوصول إلى النتائج السليمة.

ولا مراء أن لكل أمة لغتها التي تناضل من أجلها، وتكافح في سبيلها؛ وكل لغة لها خصائصها وثقافتها التي تمدها وتبنيها وتشكل وعيها. وفي هذا العالم، ثمة مفاهيم مشتركة تعبر عنها كل لغة بطريقتها أو بمعجمها، وثمة مفاهيم ثقافية أو عرقية، إذا شئت، وليس بالضرورة أن تكون لها مكافئات معجمية Lexical equivalents في بقية اللغات التي لها ثقافات أخرى وأبنية تصورية أخرى لهذا العالم وما يموج فيه من حركة وأحداث وأفكار وتصورات ذهنية مختلفة. وثمة أيضا مخترعات يختار لها أصحابها أسماء أو مصطلحات معينة، هم أحق بها وأجدر بتسميتها؛ أرأيت مولودا يسمى بغير اختيار والده!؟ على أن من حق أبناء اللغات الأخرى أن يسموها بما أرادوا من غير المطالبة بتغيير أسمائها الأصلية.

وليس بدعًا القول ولا غريبًا إن اللغات الحية تتطور باستمرار، تأخذ وتعطي على الدوام لأنها تقف على قدم ثابتة وأساس صلب ومتين؛ اللغات الهشة والمرتعشة تنكمش حول ذاتها وتخاف من الانقراض أو التضاؤل، ومن ثم إعلان الوفاة، فتنزوي طلبًا للنجاة أمام حركة الحياة العنيفة والقوية ويكون في انزوائها موتها من حيث أرادت السلامة والنجاة.

إلى ذلك، ومن المنظور العادي، معاني اللغة ذاتها، أو المعاني المعجمية، إذا رمنا الدقة، تتطور؛ تبرز معان وتختفي وراء أستار الزمن معان أخرى، وما كان بالأمس معنى أساسًا للكلمة اختفى الآن أو تراجع وصار معنى فرعيًا أو هامشيًا للكلمة، وهكذا؛ وهذا شأن اللغات جميعًا. وإذا أردت أمثلة من صميم لغتنا، فخذ كلمة القهوة، وقارن معناها في الاستعمال القديم ومعناها الآن. وإنك إذا عدت إلى القواميس، لواجد الكثير من الإشارات إلى أن معنى معينًا لكلمة ما هو الأصل؛ على أن هذا الذي كان بالأمس هو الأصل أضحى الآن هامشيًا أو منسيًا أو كالمنسي؛ لا يكاد يعرفه إلا القلة من الناس. هذه هي طبيعة اللغات وهذه هي طبيعة المعاني؛ المعاني ليست حشرات ميتة داخل هياكل الكلمات ولكنها فراشات محلقة؛ ولذلك ينكر البعض أن يكون للكلمة معنى ثابت وأساس فالمعاني سائلة وتملك مرونة كافية للتشكل بحسب الظروف والسياقات والمجتمعات والأزمنة. ويقول البعض إن الكلمة معزولة عن السياق تملك معنى ولكنه معنى محتمل؛ وإن هذا أفضل من إسناد معنى محدد لها. وللغة روافد كثيرة تغذيها وتثريها وتطور ذهنيات أهلها، ومن أهم هذه الروافد الاستعارات وهو رافد ضخم وواسع. ومن هذه الزاوية من النقاش، ليست كل الاستعارات زخرفية أو فنية فبعضها دخلت أساسًا ليس بغرض التصوير الفني بل لإثراء اللغة وحتى بعض الصور الفنية تتكلس أحيانًا وتفقد بريقها الفني فتجد طريقها للمعجم، ومنها الاقتراض من اللغات الأخرى، وتعريبها غالبًا أو إبقاؤها كما هي بشحمها ولحمها؛ ومنها الترجمة وإيجاد بدائل مناسبة ولو قريبة.

في بعض الحالات لا يوجد تطابق مفهومي بين فكرتين أو حالتين ولكن اللغات الحية والقوية لا تقف عاجزة في التعاطي ولها وسائلها وحيلها في ذلك، فتقارب وتسدد، وقد تلجأ إلى الاقتراض عند الحاجة وأحيانًا من دون الحاجة؛ وإذا صح أن العرب تسمي الشيء ببعض أجزائه أو ما يمت للمعنى بسبب، كما يقول الثعالبي الذي يفيض في هذه النقطة، ويمدك ببعض الأمثلة والاستعمالات؛ إذا صحت هذه الفكرة في إطار اللغة الواحدة، صحت أيضًا في ترجمة ما استجد من مفاهيم وأشياء في الحياة المعاصرة من اللغات الأخرى بما في ذلك المخترعات الحديثة، من دون شطط في القول أو ادعاء فارغ، فليس شرطًا أن يتطابق المفهومان لكي تستقيم الترجمة. وعليه، يمكن ترجمة كلمة مثل (ترند) إلى مقابلات كثيرة في العربية، ويكفي أن يكون معنى الكلمة العربية قريبًا من ذلك المعنى ولا يقال هنا إن تلك المقابلات مشغولة بمعانٍ أخرى فالمعاني تتطور وتتخلق باستمرار، وقد يعبر لفظ واحد عن أكثر من معنى والسياق يحدد ويعين المعنى المقصود. على أن الذائع صفة (وصف مشتق) ومثلها الرائج، ولكن يمكن أن يضاف إليهما معنى جديد، ويربط ببيئة جديدة، ويصير اسمًا بعد تجريده من الحدث؛ يكتسب هذا الوضع الجديد من سياق استعماله الجديد؛ فيمكن أن يرد هذا الاستعمال: هذا خبر ذائع أو مستفيض… والمعنى أنه أذيع/ يذاع أو استفاض/ يستفيض العلم به. ويمكن أن يكون أحدهما مصطلحًا على بعض الأحداث المتواترة بقوة أو الحالات في منصات التواصل الاجتماعي فحين نقرأ رائج أو ذائع أو متصدر أو سائد، أو حديث الساعة أو الاتجاه السائد أو رائج الآن … إلخ، في هذه المنصات لا ينصرف الذهن إلا إلى ذلك المعنى (تِرِند) بصرف النظر عن دقة المفهوم؛ إن هذا لا يعني عدم إجازة استعمال (تِرِند)، الدنيا بألف عافية يا شيخ، ودعك من وجود نظائر في العربية تطابق أو تداني هذا المفهوم إن قليلًا أو كثيرًا، فاللغة ليست وحدات معجمية فحسب ولكنها ثقافة وتصورات ورموز وحكايات وتاريخ… إلخ. فمم الخوف؟! وما الذي ستضيفه أو ستنزعه وحدة معجمية مثل (تِرِند) من لغتنا؟! وما المفهوم الخطير الذي ستلقيه في أدمغتنا ليتغير سلوكنا وقراراتنا؟!

وأيًا يكن من حجاج أو نقاش يمكن أن يثار في مثل هذه النقطة، فإن استعمال وحدة معجمية مفردة، مثل ذائع أو مستفيض أو متداول أو مركبة مثل حديث الساعة أو الاتجاه السائد، يمكن بكل ثقة واطمئنان، فالكلمات تتطور معانيها باستمرار ويمكن أن تضاف إليها معان جديدة؛ يحدث هذا كثيرًا وكثيرًا جدًا في اللغة؛ وعلى سبيل الإلماع، في مثل (طاولة مستديرة)، يمكن أن نميز بين استعمالين: اشتريت طاولة مستديرة… وعقد الرؤساء طاولة مستديرة…. هذا الاستعمال الأخير وحدة معجمية Lexical unit ذات دلالة واحدة جديدة (محادثات)، لا عهد لنا بها من قبل. وهي لذلك؛ أي في مثل هذا الاستعمال تؤدي دلالة ثابتة تختلف عن دلالة الاستعمال الأول (الاستعمال التقليدي أو العادي)، ولهذا فمثل هذا التركيب يدخل في المعاجم. هكذا تتطور اللغة في أبرز مظاهرها المحسوسة، المعجم. ولكن البعض يحسبها فتاة فاتنة ينبغي أن تحتجب وتختفي من أنظار المتحرشين، أو صندوقًا زجاجيًا مغلقًا وشديد الإحكام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى