آراء ومواقف

اليمن… كوميديا الحرب في مشهدية الخراب

وضّاح الجليل

كان لا بدّ من كوميديا، لتجميل مشهد الحرب التي كان في الوسع تفاديها، إلا أن هزلية المشهد أجبرت الممثلين السيئين على المضي فيه إلى النهاية، حتى وصل بهم الأمر إلى العودة إلى البداية،
كان لا بدّ من كوميديا، لتجميل مشهد الحرب التي كان في الوسع تفاديها، إلا أن هزلية المشهد أجبرت الممثلين السيئين على المضي فيه إلى النهاية، حتى وصل بهم الأمر إلى العودة إلى البداية، وأداء تمثيلية التفاوض مجدداً. ففي اليمن فقط، يخوض المحاربون معاركهم من أجل العودة إلى النقطة التي سبقت أول طلقة. وفي اليمن أيضاً، يتحول إطلاق صاروخ باليستي إلى عمل درامي، رفقة مشاهد من خرابٍ يتراكم في بلد فقيرٍ يملك ثروةً من الأزمات والاحتقانات والأسلحة، وينجح هذا المشهد في استنفار العنتريات فقط، ويفشل في تحقيق هدفه، فهو لا يمنع أصحابه من الذهاب إلى “العدو” لتقديم التنازلات، ومحاولة استرضائه، من أجل التفرّغ لمواجهة الجبهة الداخلية.
ظلّ إعلام تحالف الانقلاب يزعم تحقيق تقدّم داخل الأراضي السعودية، قبل أن ينتهى المشهد بأفراد مليشياته، وهم ينزعون الألغام التي زرعوها في الخط الحدودي تحت إشراف الجيش السعودي. أغرى هذا التحالف القبائل، لإرسال أبنائها لخوض معاركه، وبشّرهم باستعادة الأراضي التي ضمتها المملكة إليها في 1935، بعد حربٍ خاضتها ضدّ نظام الإمام يحيى حميد الدين الذي حكم شمال اليمن حينها حكماً وراثياً ثيوقراطياً وسلالياً، وانتهت باتفاقٍ قضى بانسحاب جيوش عبد العزيز آل سعود من المناطق الساحلية الغربية من اليمن التي سيطر عليها، في مقابل احتفاظه بثلاث مناطق كبرى، عسير ونجران وجيزان.

اخترع إعلام تحالف الانقلاب روايات وحكايات مضحكة، حتى إن أسماء فنانين عرب وعالميين وردوا في تلك الروايات كـ”مرتزقة”، شاركوا في عمليات التحالف العربي داخل اليمن، ما يشير إلى حجم استخفاف الانقلابيين بعقول الجمهور الذي يخاطبونه. وردّ الرئيس المعزول، علي عبدالله صالح، على قصف طائرات التحالف العربي منزله بمحاولةٍ لإظهار قدرةٍ على التحدّي. وفي مشهد هزلي، وقف ممسكاً ميكرفون قناته الفضائية أمام ما زعم أنه ركام منزله، كمراسل تلفزيوني، ليطلب ممن قصفوا المنزل النزول إلى الأرض، لخوض مواجهةٍ مباشرة، في موقفٍ مثير للسخرية، يصدر عن قائد سياسي وعسكري كان رئيس 25 مليون إنسان. وحين دخلت قوات التحالف العربي إلى الأراضي اليمنية، سخر اليمنيون من صالح، بأنه سيطلب من التحالف “النزول تحت الأرض”، حيث يشاع أنه يختبئ في أنفاق. وقف صالح عاجزاً أمام استهداف التحالف المؤسسات التي بناها وأسماها جيشاً، ووزّعها بين أفراد عائلته. كشفت الحرب أن كل تلك القوات لم تكن جاهزة يوماً سوى لخوض حروبٍ داخلية وقمع المعارضين وحماية سلطةٍ لم تقدم لليمنيين شيئاً أكثر من تخزين السلاح والذخيرة.

أطلق اليمنيون ثلاثة أسئلة، رداً على تحدّي صالح المثير للسخرية. يتعلق الأول بالجيش الذي بذل نظام صالح ثرواتٍ طائلةً لبنائه، واتضح أن هيكله التنظيمي وقدراته التسليحية وبنيته الديموغرافية جعلته غير جاهزٍ لمواجهة أي حربٍ خارجية، وأنه أعدًّ فقط ليواجه خصوم هذا النظام. ويرتبط الثاني بظهور صالح لإعلان تحدّيه المضحك بعد استهداف منزله فقط، وكان قبل ذلك يظهر في خطاباتٍ تستجدي وقف الحرب. أما الثالث فكان عن وعد صالح بشراء أسلحةٍ جديدة بدلاً من التي تستهدفها غارات التحالف العربي، ما يؤكد أنه ما يزال المسيطر والمتحكّم في الجيش والسلاح، ويشير إلى حسرته وألمه، بسبب نزيف مخازن أسلحته وذخيرته، ويثير سخرية المواطنين الذين استنزفت ثروات بلدهم في شراء أسلحةٍ لقمعهم، ثمّ ما يزال المسؤول عن ذلك الخراب مستعدّاً لشراء أسلحة جديدة.

لم يتوقف هذا المشهد الكاريكاتوري عند هذا الحدّ، بل إن صالح ظل يطلق صراخاً متحدياً طوال الوقت، ويؤكد قدرته على القتال 11 عاماً، والتضحية بمليون يمني في تلك الحرب. وقد عمل صالح، وما يزال، على ترسيخ صورةٍ ذهنيةٍ لنفسه لدى أنصاره بأنه الزعيم الخارق، وهو الذي يقول الشيء ونقيضه في اللحظة نفسها، فيبدو هذا إعجازاً في ظنه.

قبل عشرين عاماً، احتلت أريتريا جزيرة يمنية غير مأهولة في البحر الأحمر (حنيش)، بعد

“الحرب ستغرق تحالف الحوثي وصالح في صراعٍ طويل داخل جغرافيا ضيقة وفقيرة”

عام فقط من الحرب بين نظامي الحكم في اليمن شمالاً وجنوباً عقب فشل الوحدة السلمية بين “البلدين”، وهي الحرب التي تعرف بـ”حرب صيف 1994”. كان احتلال كتيبةٍ صغيرة من جيش أريتريا المستقلة حديثاً جزيرة يمنية إهانةً كبيرة لم يجرؤ النظام على الردّ عليها عسكرياً، واكتفى بتقديم شكوى إلى محكمة العدل الدولية التي حسمت الأمر، بعد نحو عام، بإعادة الجزيرة إلى السيادة اليمنية. ووضع ذلك الحدث اليمنيين أمام حقيقة واضحة، فجيشهم معدٌّ فقط للصراعات الداخلية وحماية نظام الحكم العصبوي. وبعد عقدين، أسلم هذا الجيش قياده إلى جماعةٍ تخوض حرباً ذات صبغة مذهبية وجهوية ومناطقية، وتتوسع داخل اليمن لإعادة السلطة إلى مركز الحكم في مناطق شمال الشمال، وهي مناطق كانت تستحوذ على النصيب الأوفر من السلطة والثروة، في أغلب فترات التاريخ اليمني، بعد أن شرعت ثورة 2011 في إزاحة مركز السلطة عن هذه المناطق، وإتاحة الفرصة أمام اليمنيين لبحث إمكانية توزيعٍ عادل للسلطة والثروة.

مع شرارة الحرب الأولى، لم تصمد أمام تحالف الانقلاب سوى بعض الجبهات في محافظتي مأرب وتعز، إلا أن قيادة هذا التحالف أدارت المعركة السياسية بمنطق العنتريات نفسه الذي لا يرى أبعد من استمراء الزعم الساذج بالتمكين الإلهي والصمود الأسطوري. ولم تضع هذه القيادة في حسابها أنها لم تعد تمتلك خياراتٍ عسكريةٍ، أو سياسيةً، أكثر مما قدمته حينها، في حين كان لدى الأطراف الأخرى كثير مما يمكن تقديمه، فالمقاومة الشعبية تستقطب كل يوم مزيداً من المقاتلين، وهي التي بدأت أعمالها العسكرية بشكل عفوي وساذج، وبأعدادٍ محدودة، قبل أن تحظى بالتفافٍ شعبي يتعاظم بمرور الوقت، خصوصاً لدى من كانوا يأملون بانتهاء الحرب سريعاً بحلّ سياسي، أو تمكُّن أحد الأطراف من حسم المعركة؛ إلا أن طول الحرب والفظائع التي مارستها المليشيات وسط مساكنهم، دفعتهم إلى الالتحاق بالمقاومة، أما التحالف العربي فكان يملك خياراتٍ كثيرة لم يبدأ استخدامها، لأسبابٍ خاصة بأجندة كل دولة مشاركة فيه، أو بسبب الضغوط الدولية الخفية عليه. وفجأةً، وفي فترةٍ زمنيةٍ قصيرةٍ، وجدت مليشيات الحوثي وصالح نفسها مطرودةً من أربع محافظات واسعة المساحة، فدفعت هذه المليشيات ثمناً بشرياً ومادياً باهظاً، وخسرت ما كسبته في أربعة أشهر في بضعة أيام.

زعم الحوثيون وصالح أنهم سينتصرون على السعودية، بكل قوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية، بالتأييد الإلهي والالتفاف الشعبي حولهما، فالنصر في ذهنية هذا التحالف وأتباعه ليس أكثر من عنترياتٍ وادعاءات. وتشير التطورات السياسية والميدانية إلى أن القضاء على تحالف الانقلاب غير وارد، وأن جماعة الحوثي ومنظومة هيمنة صالح ما زالتا تملكان قوةً وحضوراً شعبيين في المناطق التي استحوذت على القوة والسلطة والثروة خلال العقود الماضية، إلا أن هذه الحرب لن تُبقي لهما ما يسيطران عليه، أو أنها ستغرقهما في صراعٍ طويل داخل جغرافيا ضيقة وفقيرة، أو أن التسويات السياسية الناتجة عنها لن تبقي لهما ما يستحقّ السيطرة والاستحواذ عليه. وفي النهاية، ستقع البلد كلها تحت الوصاية نتيجة مغامرة الانقلاب.

شاركت السعودية بشكلٍ محدود في آخر حروب الحوثيين مع الدولة عام 2010. اخترق الحوثيون إحدى المناطق الحدودية السعودية، وانتهت المشاركة السعودية باتفاقٍ لوقف الأعمال العسكرية بين الجانبين، وهو ما عدّه الحوثيون استسلاماً وانتصاراً لهم. تعاطى الحوثيون مع الأمر بمنطق العنتريات وإغواء الأنصار؛ ولم يدركوا أن المملكة دخلت هذه الحرب لأغراضٍ استراتيجية تخصّ أمنها القومي، فحين أدركت خطورة وجود جماعةٍ سياسيةٍ ومليشيا مسلحةٍ مواليةٍ لإيران على حدودها؛ لجأت إلى الدخول في عملياتٍ عسكريةٍ محدودة على تلك الحدود، لإيجاد مبرّرٍ لإجلاء السكان المنتمين إلى المذهب الشيعي عن المناطق الحدودية، ونقلهم إلى العمق بعيداً عن تأثير جماعة الحوثي، وتقطع إمكانية نقل الصراع إلى أراضيها. –

نقلا عن العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى