حينما يعيش الناس حالة الخواء المعرفي والإبداعي، ويعجزون عن الإسهام في بناء الحياة والارتقاء بالمُثُل الإنسانية والقِيَم الحضارية، يلجؤون إلى استجرار المفارقات الطبيعية والصفات التكوينية ويستنفرون العصبيات الفارغة للاحتماء بها وفرض أنفسهم على الحياة. حينما يعيش الناس حالة الخواء المعرفي والإبداعي، ويعجزون عن الإسهام في بناء الحياة والارتقاء بالمُثُل الإنسانية والقِيَم الحضارية، يلجؤون إلى استجرار المفارقات الطبيعية والصفات التكوينية ويستنفرون العصبيات الفارغة للاحتماء بها وفرض أنفسهم على الحياة.
• ففي العصر الجاهلي كان للأنساب وللانتماءات السلالية صَولة وجَولة، فبمجردها يرث الأصاغر عن الأكابر مكانتهم وسُلطتهم، وبموجبها يتفاخرون ويتناحرون، وعلى أساسها تَرتفع مَقَامات الجَهَلة والمُغفلين في الوقت الذي يُسحق فيه الفُضلاء المبدعون، وفي ضوئها فُرضت الطبقية في المجتمع حتى صار فيه: أشراف وسادات وأتباع وعبيد، وهذا يأتي دون شَكّ بخلاف مسار الفِطرة التي فَطَر الله الناسَ عليها، والتي تقضي بـ«أن قيمة كل أمرئ ما يحسنه». ولكن الخواء المعرفي الذي كانت تعاني منه الصحراء استحضر العصبيات الحاضرة الفارغة عوضاً عن البحث عن عوامل التميز المكتسبة كالعطاء والارتقاء بالقيم الإنسانية وما يمكن أن يضيفه الإنسان إلى الحياة.
• وفي المورث اليهودي كان ولا يزال الانتساب إلى السلالة الإسرائيلية في نظرهم ميزة تَجعلهم الطّبقة السّامية، التي يزعمون أن الله خَلَقها من عنصر خاص وجعلها – لذاتها – مَعْدِن النُّبوة ومصدر هداية الخلق، ونتيجة لذلك لم يطيقوا أن يأتي نبي من غيرهم، حتى ذكر القرآن أنهم اتخذوا موقفاً معادياً من جبريل لكونه نَزَلَ بالوحي على العربي محمد الذي ليس من سلالتهم. وهذه العُقدة جعلتهم يزدرون الآخرين وينظرون إليهم بحقارة ويعتقدون أن الله ما خلقهم إلا من أجل اتباعهم وخدمتهم والموت بين أيديهم.
والفرق بين عُقدة الجاهلية وعُقدة اليهود، أن الجاهلية تدَّعي التميز لأمور اعتبارية أقنعت نفسها بأنها مُوجِبة للتميز، وإن كانت غاية في السُّخف، مثل القدرة على البقاء في الصحراء أو التلذذ بوحشية البَطش والتنكيل بالغير. أما اليهود فإنهم استنفروا لدعواهم البُعد الديني، واعتقدوا أن الله ما جعل منهم أنبياء إلا لأنهم عنصر خاص وبالتالي جعلوا قداسته قداسة دينية، تطورت عبر الزَّمن حتى أضافوا أنفسهم إلى الله، ولم يترددوا في القول: «نحن أبناء الله وأحباؤه».
ولتفكيك ثقافة العنصريتين (الجاهلية ذات الخلفية التقليدية واليهودية ذات الخلفية الدينية)، خصص القرآن مئات الآيات في عشرات المواضيع لمعالجة ذلك الانحراف من جُذوره، حتى أن المتأمل في السياقات القرآنية يجد أن معالجة ظاهرة العنصرية والفئوية يأتي في المرتبة الثانية بعد مسألة العقيدة، وذلك لما لها من أثر سلبي في إرباك الحياة وخَلْق الصِّراعات الطبقية والسباق نحو الأوهام.
وفي معالجة العنصرية اليهودية حاول القرآن اقناع اليهود بأن ما نالهم من شرف ومكانة بين الأمم إنما هو نتيجة استقامتهم في زمن ما؛ ابتداء من توحيد الله ومروراً بالتَّقَيُّد بشرائع الأنبياء وانتهاء بحسن إدارة الحياة واستغلال موارد الأرض في التجارة والصناعة والرُّقي، وصبرهم على دينهم أمام بطش الجبّارين.. ولأنهم كانوا كغيرهم ينحرفن عن القيم ويلبسون في الدين فيبعث الله إليهم نبياً منهم ليصحح لهم مسارهم، حتى أعقدوا أن الأنبياء لا يمكن إلا أن يكونوا منهم وأنهم صفوة الخلق. وتعامل القرآن مع اليهود والنصارى بما يليق بمقامهم السابق من اتباع الأنبياء وإقامة الشرائع، فوصفهم بأهل الكتاب وخاطبهم بهذا اللقب الذي يوحي بالإشادة، وحاججهم بالمعارف الغيبية وتحدث معهم عن الله والأنبياء السابقين وتطبيق الشرائع، وأكد لهم إنه ما جاء إلاّ مصدقاً لما بين يديه من التّوراة والانجيل .. بينما خاطب الآخرين من أهل الجاهلية بالأميين، واستحضر في الحديث معهم الجوانب العقلية البَحتة وضَرَب لهم كثيراً من أمثال ما لا يعرفون لعلهم يرتقون بمستوى إدراكهم من الشهادة إلى الغيب.