كتابات خاصة

كارثة الحياد الاقتصادي

ياسين التميمي

النتيجة المباشرة لبقاء البنك المركزي والسلطة النقدية في يد الانقلابيين، أن البعد الحقيقي للسيادة بقي كامناً في التحكم بهذه الموارد وليس في التمثيل الخارجي والاتصالات الدولية التي يقوم به وزراء الحكومة الشرعية من الرياض.

النتيجة المباشرة لبقاء البنك المركزي والسلطة النقدية في يد الانقلابيين، أن البعد الحقيقي للسيادة بقي كامناً في التحكم بهذه الموارد وليس في التمثيل الخارجي والاتصالات الدولية التي يقوم به وزراء الحكومة الشرعية من الرياض.
إنها كارثة “الحياد الاقتصادي” التي جرى تسويقها من قبل واشنطن على أنها “مبدأ” وليست كارثة، حيث مارست عبر سفيرها ضغوطاً قوية على الحكومة من أجل إبقاء الموارد المالية بيد من يحاربون السلطة الشرعية، ويؤسسون سلطة أمر واقع على الأرض استناداً إلى تلك الموارد التي ظلت تتدفق إلى أيديهم.
إن إنفاق 25 مليار ريال شهرياً أي ما يعادل (100) مليون ريال لصالح المجهود الحربي، ليس ادعاء بل حقيقة وهو أمر يؤكده الاستنزاف الحاد للاحتياطي النقدي الذي كان يصل إلى نحو أربعة مليارات دولار قبل أن تتسلم حكومة بحاح السلطة من حكومة الوفاق الوطني برئاسة الأستاذ محمد سالم باسندوة.
عمد الانقلابيون إلى الإمساك عن صرف الحقوق لأصحابها وتزويد المحافظات التي لا تقع تحت سيطرتهم بالمخصصات الشهرية من المرتبات وأوجه الإنفاق الأخرى، بل بلغ بها الأمر أن قامت بإيقاف رواتب الآلاف من الموظفين والجنود والقيادات الإدارية المناوئة وقامت ولا تزال بعملية الإحلال لكوادرها وعناصرها.
كان على الحكومة أن تخوض جولات صعبة من المفاوضات مع السفير الأمريكي لإقناعه بأن البنك يجب أن يبقى تحت إشراف الحكومة الشرعية، مع توفر ضمانات كافية بعدالة توزيع الموارد والاستمرار في الإنفاق على الجهاز الإداري للدولة، وخطة الحكومة أن تنتقل صلاحيات الإشراف على البنك المركزي إلى أحد فروع البنك في الداخل.
لكن الذي حدث ان السفير الأمريكي وغيره من السفراء الغربيين، طرحوا مقترحاً بأن يتم فتح اعتماد في الخارج، وهي تجربة سبق للحكومة العراقية أن خاضت تجربة مرة مشابهة، وواجهت صعوبات حقيقية في الوصول إلى أموالها، كما يقول رئيس الوزراء الدكتور أحمد عبيد بن دغر.
هناك جهود تبذل حالياً لإقناع من تبقى من الأطراف الغربية لنقل صلاحيات الإشراف النقدي للحكومة، رغم وجود صعوبات متبقية أمام مخطط كهذا.
وجد مئاتُ الآلاف من الموظفين أنفسهم أمام امتحان البقاء في عهدة العصابة الانقلابية نتيجة لعدم توفر خيارات أخرى، وهذا ساهم في تعزيز الموقف الميداني لميلشيا انقلابية منفلتة، لا هم لها سوى الاستيلاء على السلطة بأي ثمن.
بقاء السلطة النقدية بيد هؤلاء الانقلابيين، لم يكن عفوياً بل كان مدروساً ومسنوداً من القوى الغربية التي لم تفقد الأمل بإمكانية تمرير خطتها القائمة على إذكاء الصراع في منطقتنا على أساس التمايز المذهبي، وهو أمر يندرج ضمن الحسابات الخطيرة التي تحركها نوازع صليبية أكثر من كونها رغبة في محاربة الإرهاب.
هناك مداخل عديدة يحاول الغرب أن ينال من خلالها من سلطة الحكومة الشرعية وسيادتها على اليمن، ومنها محاولاته المتكررة لتمرير مقترح تشكيل حكومة شراكة وطنية، وهو اسم فضفاض لا أساس واقعي له، ويُذكرنا بتلك الحكومة التي أفرزها “اتفاق السلم والشراكة الوطنية”، إنه اسم عريض ولكنه لم يكن يعني سوى تمكين ميلشيا طائفية مرتبطة بإيران من الاستيلاء على مقدرات الدولة.
لا يفاوض ممثلو الحكومة الشرعية ممثلي الحوثيين، بل يفاوضون سفراء أمريكا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي، حتى ممثلي المؤتمر الشعبي العام، يقبعون في مكان هامشي من المفاوضات، حيث يذهب شركاؤهم الحوثيون إلى لقاءات ثنائية مع ممثلي الحكومات الغربية وسفرائها المتواجدين في الكويت دون أن يُدعى إلى هذه اللقاءات وفد المؤتمر الشعبي العام.
عليكم أن تتخيلوا أن وفد المؤتمر، الذي لا يزال على الأقل يمثل طيفاً سياسياً وطنياً بغض النظر على نزعات وتخبط قيادته، هذا الوفد يجري تهميشه أيضاً.
عندما التقيت رئيس الوزراء حصلت على تطمينات فيما يخص استعادة البنك المركزي، ويبدو أن الحكومة هذه المرة لن تدع فرصة للغرب لكي يبقي على خطته التي أنتجت هذا الوضع الشاذ والذي قامت من خلاله بتوزيع السيادة بين الحكومة والمتمردين، لكن ليس بالتساوي بل عمدت إلى ترجيح كفة الانقلابيين في الإبقاء على الاقتصاد بأيديهم، والاقتصاد هو من يحرك الحياة ويتحكم بها وليس السياسة.
لقد قال لي إن خطة استعادة البنك على وشك أن تتم خلال أيام.. نرجو أن يكون ذلك قريباً، وقريباً جداً.
لكن النقطة الإيجابية من بقاء الاقتصاد بيد الحوثيين هي أنه مكنهم من تأسيس نموذجٍ مبكرٍ وقاتم للدولة الإمامية المعاصرة، حيث الجبروت والقتل والفساد والسوق الموازية، والفشل الاقتصادي، وقد حدث كل هذا الخراب، في حين أن الإمام لا يزال في القبو أو بالكهف في أحسن الأحوال، الأمر الذي قدم لليمنيين صورة كاملة عن المستقبل الذي ينتظرهم فيما لو قرروا البقاء عبيداً وقتلة مأجورين بيد الإمامية الجديدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى