فكر وثقافة

عدن درة مدن اليمن ومأوى الألوان والثقافات

يمن مونيتور/القدس العربي

لا تشببها مدينة أخرى في تضوعها جمالاً، وتجددها تسامحًا، وتساميها تنوعًا، كعهد تاريخها الذي أنسن شخصيتها؛ وتلك سجية اكتسبتها من تاريخ طويل من التعايش مع الثقافات التي كانت تحملها السفن عبر مينائها، الذي كان واحدا من أهم موانئ العالم؛ ولهذا ظلت خلال تاريخها مأوى لجميع الألوان والثقافات والطوائف، عاشوا جميعا في كنفها؛ فتعلمت منهم وتعلموا منها؛ فكان الانفتاح على الجميع عنوان ثقافة أهلها.

على الرغم من الألم الذي صنعته الحرب الأخيرة في بدنها إلا أن شخصيتها بقيت على هويتها الإنسانية، وانفتاحها المتسامح مع التنوع؛ ولهذا تدفع هذه المدينة في كل حرب ثمنًا باهضًا؛ فالإنسان هناك ممتلئ؛ ولهذا يتجنب الزحام دومًا؛ وبالتالي يترك الحلبة للثيران. وهذا يفسر خلفية ذلك الحزن الذي يقبع خلف تلك الابتسامة المتموضعة على مدينة بين البحر والجبل وعنوانها عدن.

مشرقة، باسمة دومًا، لها طلعة لا تمل، ورؤية لا تحتوى، تعيش فيها متعة لا تروى، وذكريات لا تنسى؛ لما تكتنزه من فرائد المدن، وأسرار المواقع والأماكن.

مدينة وقعت في أحسن موقع، وألطف موضع، محمية بسور من الجبال البركانية يفتحها على البحر، فتطل على مشارف البحر العربي، مدينة فريدة في كينونتها، وحيدة في هيئتها، مسكونة بالطمأنينة، متوحدة مع القيمة الإنسانية للمكان، ممتطية صهوة القيمة الاقتصادية للموقع الطبيعي الجذاب للسياحة والملاحة، والذي جعل من حركتها التجارية دائبة منذ غابر الأزمان، فكانت نافذة من نوافذ الزمن اليمني الجميل، وثغرًا باسمًا من ثغور حضارته.

من أبرز أسواق العرب

على الرغم من اختلاف المؤرخين في تحديد سبب تسميتها، إلا أن عدن تبقى موطنًا لتعدين من يقصدها ويلوذ بها، فتسكنه قبل أن يسكنها، فظلت عبر التاريخ مرتعًا للتسامح والانفتاح والتعدد والتنوع، فتعايش فيها دفء الحقائق وقيظ الأساطير؛ قيظ صيف المكان ودفء قلب الإنسان.

كانت النافذة الأولى التي أطل منها اليمن على العالم الخارجي، كما كانت من أبرز أسواق العرب الشهيرة، وأحد أهم مراكز تجارة البخور والتوابل، وممرا للقوافل قبل الإسلام، ومن أهم موانئ العالم، وأول موانئ العرب التي أقامت نظام التجارة الحرة بكفاءة، واحتلت المكانة الرابعة بين موانئ العالم، من حيث الأهمية التجارية وتموين السفن خلال فترة الاحتلال البريطاني (كانون الثاني/يناير 1839م وحتى 30 تشرين الثاني/نوفمبر 1967م) لتكون بعد الاستقلال عاصمة الشطر الجنوبي من اليمن حتى العام 1990 حيث شرفها التاريخ في ذلك العام باحتضان حدث توقيع اتفاقية إعادة الوحدة اليمنية، ليرتفع في سمائها أول علم للجمهورية اليمنية؛ ما جعل لها منزلة عظيمة في قلوب كل اليمنيين، ليتخذوها عاصمتهم الشتوية ومركزهم الاقتصادي والتجاري.

تقع في أقصى الجنوب الغربي من اليمن وتبعد عن صنعاء 430 كيلومترا، مشرفة على البحر العربي، مطلة على المحيط الهندي ومضيق باب المندب المدخل الرئيس للبحر الأحمر عند نقطة التقاء قارة آسيا مع قارة أفريقيا؛ وهو الموقع الذي فاض عليها عبر التاريخ بأهمية خاصة كميناء بحري طبيعي تجاري، ذي تاريخ عريق للملاحة الدولية منذ القدم، محمي بسلسلة من الجبال البركانية، تعاقبت على إدارته وتطويره الممالك والدويلات اليمنية في التاريخ القديم والوسيط، حتى خضوع المدينة للاحتلال البريطاني في عام 1839م، الذي استغل موقعها الاستراتيجي كنقطة اتصال بين المستعمرات البريطانية، واتخذها مركزا لتموين وانطلاق السفن، التي تفد من قارة آسيا، خاصة الهند والصين إلى إنكلترا وأوروبا، لتشهد الحركة التجارية في المدينة والميناء نماءً وتوسعًا وازدهارًا عزز من شهرتها الدولية كمركز للتجارة البحرية، وتميزت فيها عن بقية الموانئ البحرية في المنطقة بمنح فرص متساوية لجميع التجار الذين كانوا يقصدونها من الشرق والغرب، حسب بعض المصادر التي روت أيضًا أنه نتيجة لتصاعد حجم الإقبال عليها، استحدث بعد عشر سنوات من الاحتلال ميناء حديثًا في منطقة التواهي بدلاً عن الميناء القديم في منطقة صيرة، وفي نفس العام 1850م أعلنت عدن منطقة حرة، فكانت أول مدينة عربية أقامت نظام التجارة الحرة بكفاءة حتى العام 1969م.

بين البحر والجبل

بالإضافة إلى موقعها الطبيعي الجذاب للسياحة بشواطئها الخلابة ورمالها الناعمة ومياهها الدافئة، ومتنزهاتها بخدماتها المتنوعة، ومجتمعها وبيئتها المتصالحة مع التمدن، فقد ظلت عدن مزارًا سياحيا ومقصدًا يستقر فيه رجال المال والأعمال، ومكانًا يطيب فيه مقام الأدباء والفنانين، وهو ما أكده كثيرٌ ممن زارها وسكنها من الأدباء والفنانين العرب والعجم، فها هي التشكيلية الإنكليزية ماري بروس تعتبرها مدينة الرسم؛ فتقول هذه الفنانة، التي تعد أول أوروبية تقيم معرضًا تشكيليا في عدن في عام 1946م، في إحدى رسائلها المنشورة في خمسينيات القرن الفائت: «إن عدن هي حقا موطن حيث ينبغي للرسام أن يعيش».

القادم إلى عدن جوا يتاح له الاستمتاع برؤيتها في مشهد تضاريسي لا تتمثله مدينة أخرى، إذ سيراها رابضة بين البحر والجبل، في منطقة أشبه بفوهة بركان تحيط بها الجبال من ثلاث جهات، فجبل شمسان من الغرب والشمال، وجبل صِيرة من الجنوب الغربي، ليطل عليها البحر من الشرق والجنوب الشرقي مداعبًا بأمواجه سحر ضفائرها. وتتشكل تضاريس المكان/ المدينة على شبة جزيرتين صخريتين تطلان على شكل رأسين باتجاه البحر، تسمى الأولى شبه جزيرة عدن الصغرى، وتعرف اليوم باسم مدينة البريقة، ويطلق على الثانية شبة جزيرة عدن الكبرى، وتعرف باسم مدينة كِريتر، ويربط بينهما شريط رملي تتناثر حوله بعض المدن، التي صارت جزءًا من عدن المدينة والمحافظة.

خور مكسر

في طريقنا برا إلى عدن من صنعاء تجاوزنا عددًا من المحافظات، إذ طالت الطريق بفعل متغيرات واستحداثات الحرب، وبالتالي صارت الرحلة من صنعاء إلى عدن تستغرق من الوقت ثلاثة أضعاف من كانت تستغرقه قبل الحرب، لندخل عدن من الشمال الغربي، عبر بساتين أسلمتنا إلى أرض رملية شبه صحراوية دلفنا منها إلى مدن عدن، وفي إحدى تلك المدن، وهي خور مكسر توقفت بنا السيارة لنبيت ليلتنا في فندق مطِل على ساحة تسمى ساحة العروض، انطلقنا منها في اليوم التالي إلى الاستمتاع بفتنة عدن الحقيقية كريتر. وكانت مدينة عدن قديمًا محصورة في قلب ما تعرف بجزيرة عدن الكبرى، والمعروفة اليوم بمدينة كريتر، التي ظلت تحمل لزمن طويل مسمى عدن، قبل أن يتجاوزها ليطلق اليوم على معظم المدن التي نشأت على ضواحيها، وصارت تشكل معها محافظة عدن، التي تضم ثماني مديريات كِريتر، المعلا، التواهي، خور مكسر، المنصورة، الشيخ عثمان، دار سعد، البريقة.

أكثر ما يدهشك في مدينة كريتر مبانيها الأثرية وطرازها المعماري الذي يشكل مزيجًا من طرز كثيرة، فارسية وهندية وأوروبية ويمنية غالبة. ويزيد من خصوصية جمال المدينة أحياؤها المنتظمة، وشوارعها الضيقة، وأسواقها المزدحمة.

وأنت في كريتر ستغمرك حالة وجدانية مفعمة بإحساس جميل تنتشي معه روحك بالألفة، يزيد من تفاعل وانفعال هذا الإحساس ما تلمسه في مجتمع المدينة من انسجام يتجاوز المتوفر في مفردات معمارها وتصميمها المديني إلى بساطة الناس وتعاملهم الرفيع مع المكان والإنسان، ما غمر حياتهم ومدينتهم بالسكينة والطمأنينة التي تنثال على الزائر قبل أن يتحسسها في عاداتهم وتقاليدهم، ويقرأها في مقاهيهم وأسواقهم ومجالسهم وأسمارهم. فعلى الرغم من المناخ الصائف معظم أيام السنة في هذه المدينة النابتة على أرض صخرية ينقطع فيها التراب، فإن قلوب سكانها أشبه بواحات خضراء دافئة تجسد أروع قيم التعاون والتسامح والتعايش التي تشكل على إيقاعها مجتمعًا مزيجًا من الأقوام، صار جزءًا من نسيجها المحب لكل وافد إليها.

إضافة إلى ذلك تحتضن كريتر أبرز معالم عدن التاريخية، وفي مقدمة تلك المعالم صهاريج الطويلة الواقعة في وادي الطويلة الذي تنتهي إليه كريتر من جهة الشمال الشرقي، وتضم 18 صهريجًا شيدت في مضيق عند سفح جبل شمسان، وتنتهي إلى منفذ يفضي بها إلى المدينة. تقف متعجبًا داخل حديقة الصهاريج التي صارت مزارًا سياحيا يتملى فيه الزوار حكمة التخطيط ودقة التصميم والتعمير وصلابة البناء الممتد من أسفل الجبل إلى أعلى في مسار دقيق من الشبكات والمصارف تتلقف مياه الأمطار المتدفقة من قمم الجبل بالشكل الذي كان يضمن حماية المدينة من أضرار السيول، ويخزن مياه الشرب، ويغذي الآبار الجوفية لمدينة عدن.

وخلال العودة من زيارة صهاريج الطويلة باتجاه زيارة قلعة صيرة، وهي أحد المعالم المهمة في هذه المدينة، استوقفنا عدد من المعالم لنترجل مستغرقين في التفاصيل، ومن هذه المعالم تلك المنارة التي تنتصب على قاعدة مغلقة في أحد شوارع المدينة، وتتخذ شكلاً مخروطيا، ويعود بناؤها حسب بعض المراجع إلى عهد الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز في القرن الثامن الميلادي. وكشفت دراسات حديثة أن هذه المنارة لم تكن منارة لهدي السفن إلى الميناء، وإنما منارة لمسجد قديم كشف عن بعض جدرانه وتيجان أعمدته عند الحفر لبناء عمارة بالقرب من هذا الموقع. إلى ذلك تحتضن كريتر عددًا من المتاحف التي تشكل بمبانيها التاريخية الجميلة ومحتوياتها الآثارية والتراثية تحفًا رائعة.

 

قلعة صِيرة

 

ها نحن قد اقتربنا من جبل صِيرة، وقلعته الشامخة تظهر على مرمى أبصارنا كحارس أمين للمدينة والميناء، وهو الهدف الذي أنشئت من أجله قبل آلاف السنين إلى الشرق من مدينة كريتر، والتي اعتبرها المؤرخون أشهر المعالم الثلاثة التي تؤرخ لمدينة عدن ونشاطها عبر التاريخ، وإذا كانت الصهاريج أبرز ملامح نشاطها الاقتصادي، والمنارة أبرز ملامح نشاطها الديني، فإن أبرز ملامح نشاطها العسكري هذه القلعة العتيدة وغيرها من الحصون.

على قمة جبل صيرة في المنفذ الشرقي لمدينة كريتر بنيت قلعة لا تزال باقية، ويطلق عليها قلعة صِيرة، ويرجع تاريخها إلى القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، وتشير الدراسات الحديثة إلى أنها أقيمت كمأوى وحماية للميناء الذي يطل عليه الجبل، وتؤكد دراسات أخرى ارتباط بنائها ارتباطًا وثيقًا بنشوء وتطور الميناء القديم الذي ما كان له أن ينال ما ناله من شهرة وأهمية دون حماية تكفلت بها، بجانب السور الجبلي، هذه القلعة، والتي تلاشت أهميتها بعد عشر سنوات من الاحتلال البريطاني لعدن، عندما اتخذ قرارًا بنقل الميناء إلى منطقة التواهي، التي هي إحدى مدن عدن المستحدثة، والتي اتخذها الاحتلال عاصمته الإدارية والاقتصادية. وتنتشر في مديرية التواهي الواقعة إلى الشمال الغربي من كريتر العديد من المنشآت السياحية والمتنزهات، من بينها معلم ساعة «بج بن» الصغرى، الذي يشدك منظره الشبيه جدا بالساعة الأم في لندن.

ومن التواهي انتقلنا إلى المعلا، وهي مدينة تقول المراجع إنها نمت خلال القرن التاسع عشر الميلادي، وقد اشتهرت بصناعة السفن. ومن أبرز معالمها اليوم العمارات السكنية القديمة المرصوصة على شارعها العام كأنها بناية واحدة.

من المعلا إلى مدينة خور مكسر، التي يقع فيها مطار عدن الدولي، ومن خور مكسر إلى مدينة الشيخ عثمان، والتي سميت بهذا الاسم نسبة لعالِم دينٍ كبير مدفون ضريحه في الناحية الشرقية الشمالية منها، حيث بني بجانب ضريحه مسجد، وحول الضريح والمسجد نشأت قرية أصبحت اليوم مدينة تحيط بها من الغرب مدينتا دار سعد والمنصورة، تطير بك بهجة الاكتشاف منهما إلى مديرية عدن الصغرى أو مدينة البريقة، وهي مدينة صناعية وفيها توجد مصفاة للنفط، بالإضافة إلى تفردها بخلجان وسواحل مختلفة حقا!

لن تشد انتباهك كنيسة منطقة صلاح الدين في مديرية البريقة؛ لأنك قد وجدت قبلها في كريتر والتواهي كنائس أخرى، وهذا ليس بغريبٍ على عدن التي ضمت عبر تاريخها، بالإضافة إلى مساجدها العريقة المتعددة بتعدد المذاهب، والتي من أبرزها مسجد أبان ومسجد العيدروس، مراكز تعبدية لأتباع أديان أخرى تؤكد ما تمتعت به المدينة من انفتاح وتسامح. إذ وجدت في عدن عدة كنائس، كما لا تزال فيها آثار قائمة للعديد من معابد اليهود والهندوس والزرادشتيين، وغيرها من الطوائف.

لن تنسى قبل أن تغادر هذه المدينة أن تحمل معك نخبة منتخبة من أجمل ما تنتجه أسواقها؛ إنها الحلويات العدنية، والأهم من ذلك لن يفوتك اقتناء بعض من البخور والطيوب التي لا تزال سرا من أسرار سحرها، وفصلاً مهما في حكايتها المعطرة بالجمال المتجدد.

يبقى أن نشير قبل الانصراف إلى أن عدن على الرغم من عراقة تاريخها وثراء تراثها، لا تزال مكتبتها حتى اليوم تفتقر إلى المراجع الكافية في تاريخها، وتتعرض ذاكرتها للإهمال والاندثار، اللذين باتت معهما في أمس الحاجة إلى قرار وخطة وفريق ينبش في تاريخها، ويوثق ذاكرتها ليحفظ ماء وجه اليمن أمام تاريخ هذه المدينة وحضارتها.

وقبل كل ذلك تعيش عدن اليوم وضعا اقتصاديًا وخدميًا مترديًا يضاعف من معاناة أهلها لاسيما مع تدهور قيمة العملة الوطنية وارتفاع الأسعار، ولعل أكبر معاناة هي تراجع الخدمات، وفي مقدمتها الكهرباء، التي تصبح الحياة فيها مع انقطاع الكهرباء لوقت طويل لا تطاق، لاسيما مع ارتفاع درجة الحرارة صيفًا في مدينة ساحلية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى