الإسعافات النفسية الأولية.. أمورٌ منسية تحتاجها بشدة الشعوب المتضررة! ماذا عن اليمن؟
يمن مونيتور/ إفتخار عبده
شهدت العديد من البلدان العربية أزمات متتالية- خاصة في السنوات العشر الأخيرة- هذه الأزمات عادت آثارها على الجانب النفسي لأبناء المجتمعات بشكل مباشر؛ الأمر الذي أوصل الكثير من الناس إلى الإصابة بالحالات النفسية الميؤوس منها (الجنون).
والإسعافات النفسية الأولية، فكرة تغيب عن أذهان الكثير؛ لكنها قد تنقذ العديد من الأشخاص إذا ما تم الاهتمام بها؛ إذ إنها تهدف إلى توفير الدعم النفسي والعاطفي الأولي والأساسي للأفراد الذين يعانون من مشكلات نفسية وعاطفية، في حالات الأزمات والكوارث.
إخصائيون نفسيون يرون أن الإسعافات النفسية ضرورية أكثر من الإسعافات الجسدية؛ ١ فجراح الجسد تظهر للعيان ويبان نزيفها، لكن جراح النفس والمشاعر قد لا تظهر وقد توصل أصحابها إما إلى الموت أو إلى الجنون الحتمي.
أثناء بحثنا عن الإسعافات النفسية الأولية ونسبة وجودها والاهتمام بها في بعض الدول العربية تفاجأنا أن الكثير من البلدان ما تزال تنظر للجانب النفسي والإصابة فيه نظرة تقليل وتهميش إن جاز التعبير، لا تولي هذا الجانب اهتماما يزيح الضرر عن الكثير.
وتقول شيماء علي “إخصائية نفسية يمنية، تعمل في عيادة النفس المطمئنة- صنعاء- الزبيري” نسبة الوعي المجتمعي بالإسعافات النفسية الأولية- في اليمن- ضعيفة جدا؛ بل إن الكثير من أبناء المجتمع قد يعرضون أقاربهم لصدمات نفسية دون قصد منهم، كجعل الأطفال ينظرون إلى أماكن الكوارث على سبيل المثال وهذا الأمر خطر وقد يعرضهم لصدمات نفسية “.
وأضافت علي ل” يمن مونيتور “المتجمع اليمني ينظر للمريض النفسي أو لمن أصيب بصدمة نفسية على أنه وصمة عار، علما بأن المرض النفسي هو كالمرض الجسدي بحاجة إلى نوع من العلاج وسينتهي كما ينتهي ألم الأسنان، والجلسات العلاجية النفسية هي كالجلسات العلاجية التي يجريها أي مريض عند أي طبيب، إلا أن الجلسات النفسية قد لا تحتاج للعلاج الكيماوي وهذا أسهل بكثير”.
وأشار علي إلى أنه “من الضروري على المجتمع أن يفهم أن أي إنسان تعرض لصدمة نفسية فهو بحاجة إلى جلسات نفسية حتى وإن كان عصابيا (طبيعيا) فهو بحاجة إلى جلسات إسعافية نفسية أولية، أما إذا كان قد تأثر كثيرا وأصيب بالهلوسة وكان يتخيل أمورا غير موجودة فهذا النوع (ذهاني) وهو بحاجة إلى أدوية”.
وأردفت “إذا أراد أحد أن يعرف أن هذا الشخص تعرض لصدمة نفسية فسيلاحظ عليه الأعراض وهي: سهولة الاستثارة؛ تجده ينفعل لأتفه الأسباب، تتغير سلوكياته فتراه يتجنب المرور أمام المنازل المدمرة- على سبيل المثال- تحدث له فوبيا من الأمور التي سببت له الصدمة ويكون دائم القلق والتوتر وكثير الحزن، وقد يصاب باضطرابات أخرى كالاكتئاب وغيرها”.
وتابعت “ينبغي على المجتمع أن يعلم أن الدعم النفسي ينبغي أن يكون من قبل مختص، الشخص الذي يعرف متى يكون التدخل والإسعاف النفسي، فالذي يصاب بالصدمة في البداية يكون في مرحلة التبلد وبعدها مرحلة الإنكار، ثم مرحلة التحجج وآخر مرحلة هي مرحلة القبول فلا بد للشخص أن يمر بهذه المراحل كاملة وبعدها يصح أن يتدخل الدعم النفسي إذا وصل الشخص إلى مرحلة القبول”.
وأكدت أنه “من الضروري أن يعيش المصدوم مرحلة حزنه، والمتابع له إذا وجده وصل لمرحلة القبول، بعدها يتدخل في الدعم النفسي؛ أو الإسعاف النفسي الأولي، أما إذا وجده لم يصل إلى مرحلة القبول وبقي عند مرحلة الإنكار أو التحجج فلا بد من أن يعرض على إخصائي نفسي ليتلقى جلسات نفسية وعلاجية”.
وأوضحت أن الصدمات النفسية إذا تم إهمالها من قبل أصحابها أو من قبل أبناء المجتمع فستتحول إلى أمراض جسدية مزمنة كالإصابة بداء السكري أو القولون العصبي أو الضغط أو السرطان وهذه كلها اضطرابات تحولية نتجت عن مرض نفسي ساعده في ذلك الاستعداد الوراثي الموجود في الإنسان.
وواصلت” كثير ممن يحضرون لي للعيادة -وخاصة الرجال- يكونون رافضين الجلسات النفسية، هم يريدون أدوية فقط علمًا بأن أسعار الأدوية باهظة الثمن مقارنة بأسعار الجلسات وهم لا يعلمون أن بعض الحالات لا تحتاج للعلاج الدوائي وتكتفي فقط بالجلسات، وهنا ينبغي أن يعي المقبل على العيادات النفسية أن الدواء لا يكون للشخص العصابي وإنما يكتفي فقط بالجلسات التي تخرجه من الصدمة التي فيه(و قد يحتاج في حالات قليلة)”.
ليست اليمن وحدها التي تشهد الحرب والكوارث والأزمات الإنسانية والمعيشية؛ فهناك الكثير من الدول العربية من تعيش ذلك وبكل مرارة.
توجه بحثنا هذه المرة إلى سوريا البلد الذي يعاني أهله الأمرين إثر التهجير والنزوح المستمر والزلازل الطبيعية.
في السياق ذاته يقول مأمون عرابي ” مرشد نفسي من سوريا” الاسعافات النفسية الأولية هي مجموعة الخدمات النفسية التي تقدم للأشخاص الذين تعرضوا لأحداث مجهدة كالقصف والتهجير والزلازل والحروب والكوارث بأنواعها، ويحتاجون إلى الإسعاف النفسي، وفي الوقت نفسه هم يرغبون بالحصول على هذه الخدمات”.
وأضاف عرابي لـ” يمن مونيتور” كل من تعرض لحدث مجهد بلا شك يتأثر فيه، ولكن ليس كل الأشخاص بحاجة إلى الإسعاف النفسي الأولي هناك الأغلبية ممن يحتاجون لهذه الخدمات ومنهم من يرغبون ومنهم من لا يرغبون بها، والإسعاف النفسي لا يقدم للأشخاص غير الراغبين به، فالأمر ليس بالإجبار والإقحام، فالخدمات النفسية بشكل عام لا تعطى لمن لا يريدها”.
وأشار إلى أن” معرفة الشعب السوري بالإسعاف النفسي الأولي معرفة متفاوتة، وهذا التفاوت يرجع للمستوى التعليمي، للبيئة، لكمية الخدمات النفسية التي يحصل عليها المتضررون، ففي بعض البيئات في سوريا وخاصة المخيمات هناك من حصلوا على خدمات مختلفة من ضمنها الإسعافات النفسية الأولية”.
وبيَّن أن” البعض من الناس تكون على علم بأنها تأخذ جلسات نفسية بعد المحن والأزمات والكوارث؛ لكنها لا تعرف أن هذا هو الإسعاف النفسي، هي فقط تعرفه كخدمات نفسية، فأغلب المجتمعات الريفية ومجتمعات المخيمات في سوريا حصلوا على هذه الخدمات وخاصة بعدما حدثت التهجيرات المتسلسلة منذ عام 2015م عندما حصل تهجير من الشام والغوطة ومن درعة وحمص وكانت الأهالي المهجرة تأتي إلى الشمال السوري وعادة ما كانت تتلقى هذه الفئات المهجرة من بعض المنظمات الإسعافات النفسية إلى جانب الأمن الغذائي”.
لأجل أن تقدم الخدمات النفسية بالشكل الصحيح ينبغي تأهيل أشخاص لها
ولفت عرابي أن”اهتمام السلطات بتأهيل أشخاص تأهيلًا صحيحًا على أسسٍ علمية صحيحة مبنية على أبحاث من حيث كيفية المعاملة والخطاب مع المتضررين،” كيف أتكلم مع الناس وكيف أجلس معهم”، ولكن إخراج أشخاص عن طريق دورات تأهيلية سريعة فأهلها لن يكونوا قادرين على تقديم خدمة نفسية صحيحة؛ فلا بد أن يكون التأهيل صحيحًا وأن يكون تحت مشرفين أخصائيين نفسيين لديهم خبرة طويلة ويكون الإشراف حتى أثناء العمل”.
وتابع ” أن يتم الإعلان عن هذه الخدمات بطريقة واقعية فلا نقول مثلا: نحن نستطيع أن نحل كل مشاكلك ونخلصك بفترة قصيرة من كل شيء تعاني منه، فهذا كلام غير واقعي على الإطلاق، فيجب أن تعطي فكرة أن الخدمات النفسية مفيدة للمجتمع وقد تفيد بشكل جيد وخاصة إذا كان هناك تعاون بين الشخص الذي تقدم له الخدمة ومقدم الخدمة بأسلوب يشعر الإنسان على أنه قادر على الاستمرار في حياته؛ فالإعلان الواقعي والطرح الواقعي يجعل العمل مقبولًا”.
يجب ألا تعطي الخدمات النفسية وعودًا كاذبة ومزيفة
وشدد مأمون عرابي في حديثه لـ”يمن مونيتور ” أنه” عندما يجلس مقدم الخدمة مع المتضرر ويسمعه يقول خسرت منزلي، خسرت كل شيء، أحيانًا مقدم الخدمة قد يقول له: بإذن الله سنعمل على أن يكون لك منزل جديد، وهنا الهدف من مقدم الخدمة أن يشعر المتضرر براحة وإن كانت مؤقته بإعطائه له هذا القليل من الأمل، ولكن هذا الأمل الكاذب سيشعره في النهاية بالإحباط الأكبر، فالأفضل عدم إعطاء المستفيد وعودًا إذا كان المقدم غير قادر على تقديم شيء منها”.
ويرى عرابي أنه” سيحدث تقدم المجتمع في الخدمات النفسية إذا كان هناك اهتمام من قبل السلطات من خلال تأمين مراكز يشرف عليها مشرفون ذوو خبرة، وتأهيل وتأسيس الكثير من الفرق المدربة على أبحاث ودراسات علمية، ونظريات نفسية معروفة ومقننة، وكذلك اختيار الأشخاص لا يكون بالطريقة العشوائية ولكن يكون مبنيا على اختصاص معين، إرشاد نفسي أو علم نفس”.
وأكد” من الخطأ أن يرى البعض أن الإسعاف النفسي الأولي لا يقوم به إلا مختصون في علم النفس، والحقيقة أن الإسعاف النفسي الأولى بإمكان أي شخص حصل على تأهيل علمي جيد أن يقدمه سواء من المجالات التربوية أو غيرها، ولكن يشترط فيه أن يكون قد حصل على تدريب في الإسعاف الأولي والدعم النفسي الاجتماعي من جهة معروفة أنها تقدم دورات بهذا المجال وفي الوقت ذاته يجب أن يكون حصل على إشراف( أي عمل على حالات تجريبية تحت إشراف مختص)”.
رسالة إلى المجتمع في كيفية تخطي العقبات النفسية
وأرسل عرابي رسالته للمجتمعات العربية في ” أن يوضع كل شخص في مكانه المناسب، والاهتمام بالأبحاث في كل الجوانب، الشخصية والنفسية والصحية، فالأبحاث تمنع هدر الوقت والجهد والمال والتعاون بين هذه الاختصاصات كلها، وأن يكون هناك تعاون يسهل حل كل المشكلات لا سيما النفسية منها”.
من جهته يقول محمد حيزة بازيد” صحفي مصري – جريدة الفجر” الطب النفسي بشكل عام لا يلقى اهتمامًا من قبل المصريين وهناك قطاع كبير من المصريين يتعاملون مع الطبيب النفسي على أنه طبيب المجانين وأن الطبيب النفسي مجنون هو الآخر، وكذلك المريض النفسي ينظر له على أنه مجنون وعلاجه يكون بالسر في مكان بعيد وخفية عن الآخرين”.
وأضاف حيزة لـ” يمن مونيتور” الوعي بالإسعاف النفسي الأولي لدى الشعب المصرى ضعيف جدًا، إلى درجة أنه لا أحد يقدر على أن يقدم الدعم النفسي لشخص وقع له حادث ما، بل تجد الناس إزاء ذلك كلًا يبدي رأيه وحسب مزاجه الشخصي لا حسب المعرفة والخبرة”.
وأردف” حتى الوسائل الإعلامية التي من الضروري أن تشير لأهمية هذا الجانب، غير مهتمة على الإطلاق، فلا توجد وسيلة إعلامية تعمل على توعية الناس بهذا الجانب من باب الدعم النفسي للمواطن”.
وأشار إلى أنه” ظهرت في الفترات الأخيرة حالات اكتئاب حمل، واكتئاب رضاعة واكتئاب ما بعد الولادة وهذا منتشر بشكل كبير لكن للأسف ما يزال التعامل مع المتعب النفسي بحذر وتخوف”.
بدورها تقول بتول شومر” كاتبة لبنانية وصاحبة محتوى على السوشال ميديا” في الفترات الأخيرة في لبنان تحسنت المعرفة في الجانب النفسي لأبناء المجتمع هنا سواء كان الإسعاف النفسي الأولي أو علاج المرض النفسي الظاهر، وذلك لكثرة ظهور اللبنانيين عبر السوشال ميديا من الذين يوعون بهذا الجانب، وكثرة المتابعين لهم من قبل الناس هنا”.
وأضافت شومر لـ” يمن مونيتور” رغم هذا إلا أنه ما تزال تعاني بعض المناطق- وخاصة الريفية- في لبنان من سوء الفهم والتعامل مع المرضى النفسيين فهناك من ما يزال يرى المريض النفسي أو المصاب بالصدمة على أنه مجنون ويجب الابتعاد عنه وعدم التعامل معه لأنه مؤذ؛ وهذا الأمر يزيد من حالة المريض حتى وإن كان على وشك الشفاء من مرضه”.
وأردفت” حتى إذا أصيب أحد بنوع من الاكتئاب مثلًا يحدث أن يتنمر عليه الآخرون وينفرون منه، وهذا الأمر يجعل المريض يرفض أن يزور المختص النفسي أو أن يتلقى جلسات في الإسعاف النفسي الأولي؛ خوفًا من نظرة المجتمع القاصرة له، ثم يقنع نفسه أنه سيعالج نفسه بنفسه وهذا ما يفاقم المرض أكثر لديه”.
وتابعت” ما تزال النظرة للجانب النفسي في القرى اللبنانية قاصرة؛ حتى إن حدث وأقبل البعض على إسعاف أحد أقاربه فيكون هذا عن طريق التخفي من أعين الناس، لأن المريض النفسي ينظر له كالمعاق ذهنيًا وأنه حالة ميؤس منها وينبغي تجنبها”.
وواصلت” كثيرة هي القصص المحزنة التي تحدث هنا وخاصة في جانب الفتيات فعلى سبيل المثال تخسر إحداهن في مشروع كانت قد فتحته وتعبت به كثيرًا أو حدثت لها قصة حب فاشلة، هنا هذه الفتاة تتعرض لصدمة نفسية بالإمكان أن تتعالج منها إذا ما حصلت على بعض الجلسات العلاجية؛ لكن الأهل أنفسهم يرفضون رفضًا قاطعًا أن تقف ابنتهم أمام طبيب نفسي؛ لأنه سيحكم عليها من قبل المجتمع بالجنون ولن يتقدم أحد لخطبتها -حسب ظنهم- وبالتالي تكون فعلًا رهن الجنون وهم لا يعلمون”.
واختتمت” ينبغي على المجتمعات- وخاصة المجتمعات الريفية- أن تعي أن العلاج النفسي ليس عيبًا وأن الصدمة النفسية هي كالوعكة الصحية بحاجة لعلاج وستنتهي بفترة زمنية قصيرة إذا ما تم الاهتمام”.