أمريكا تتأذى من سقف ديونها العبثي
مارتن وولف من لندن
كيف يمكن للمرء أن يقيم احتمالية أن تتخلف أهم بلد في العالم طواعية عن سداد الديون؟ هل من المحتمل أن يحدث شيء بهذا الجنون حقا؟ وماذا يمكن أن تكون العواقب إذا حدث؟ من المستحيل الإجابة عن هذه الأسئلة. وهذا ليس لأنها أمور نادرة لا يمكن تخيلها. بدلا من ذلك، يندرج التخلف عن السداد في الولايات المتحدة ضمن فئة واسعة من “المجهولات المعروفة”، الأحداث غير القابلة للتنبؤ ذات التأثير الكبير. كانت الأزمة المالية في 2007 إلى 2009 والجائحة والحرب الروسية الأوكرانية من هذا النوع.
من المستحيل التنبؤ بمثل هذه الأحداث بسبب ندرتها وتعقيد مسبباتها. لا نعرف ما يكفي للتنبؤ بموعد ظهور الجائحة التالية وبأي شكل ستأتي، ومتى وأين سيبدأ شخص ما حربا أو ما إذا كان السياسيون الأمريكيون سيدمرون المصداقية التي أمضوا قرونا في بنائها لبلدهم. لكن نعلم أن مثل هذه الصدمات تحدث بالفعل. وهي جزء من واقعنا.
إذن، ماذا عن هذا التهديد بالتحديد؟ ليس من الطبيعي أن يكون لبلد ما ميزانية تشريعية وتفويض منفصل للديون التي تستلزمها هذه الميزانية. بالنسبة إلى الولايات المتحدة، كان هذا نتاجا لاحتياجات الحرب: قبل 1917، كان على الكونجرس أن يأذن بكل قرض على حدة. وحتى الآن، سقف الديون الأمريكية يرفع دائما عند الحاجة. على ما يبدو، حصل هذا 90 مرة تقريبا.
يستنتج العقلاء أن السقف ليس له معنى. لكنه ليس بلا أهمية. وعلى نحو متزايد، ينظر الجمهوريون إلى السقف باعتباره أداة ضغط على الإنفاق ولكن ليس، ولا بد من التشديد على ذلك، على العجوزات الناجمة عن التخفيضات الضريبية. لقد كانوا سعداء بالتخفيضات الضريبية في عهد جورج دبليو بوش ودونالد ترمب. لذلك، كما تشير مادة منشورة من معهد بروكينجز “على مدى العقود الثلاثة الماضية، عجل السقف من المعارك السياسية التي استخدم خلالها بعض المشرعين التصويت على سقف الديون لمحاولة إبطاء نمو الإنفاق الفيدرالي”. حدث هذا في عهد باراك أوباما في 2011 وتحت قيادة جو بايدن في 2021، قبل رفع سقف الديون إلى 31.4 تريليون دولار، حيث هو الآن. أصبحت الحاجة إلى رفعه مرة أخرى ملحة للغاية لأن السيولة قد تنفد من الحكومة الفيدرالية في حزيران (يونيو).
هل يمكن أن يحدث التخلف عن السداد؟ الإجابة “نعم”. أحد الأسباب هو أن الأحزاب متباعدة إلى حد كبير. ستفرض مقترحات الجمهوريين تخفيضا يبلغ 47 في المائة في إجمالي الإنفاق التقديري الحقيقي غير العسكري بين 2024 و2033. وهذه فجوة كبيرة يصعب سدها، حتى لو كان المزاج السياسي العام قد تحسن. السبب الآخر هو أن المشاركين الرئيسين قد يشعرون بأنهم يفتقرون إلى الحافز لتقديم تنازلات. والجمهوريون منقسمون للغاية، إذ لدى بعض وجهات نظر متطرفة للغاية ويبدو أن كثيرا منهم يشعرون بأنه حتى الكارثة الاقتصادية لن تضر سوى الإدارة. في الوقت نفسه، قد يشعر الديمقراطيون بأن الرضوخ لضغط الإنفاق مؤلم للغاية. في “لعبة الدجاجة” هذه “صراع لا يتراجع فيه أي من الطرفين خوفا من أن يبدو جبانا”، تحدث الاصطدامات.
يأمل بعض أن يظل من الممكن إدارة ذلك، على الأقل لفترة من الوقت. كان من المفترض أن تتضمن خطة 2011 استمرار مدفوعات الفائدة وأصل الدين، لكن تأخير الدفع للوكالات والمقاولين والمستفيدين من الضمان الاجتماعي ومقدمي الرعاية الطبية. تتضمن المقترحات الجذرية أكثر عملة بلاتينية بقيمة تريليون دولار أو اللجوء إلى التعديل الـ14، الذي ينص على أن “صلاحية الدين العام للولايات المتحدة، المصرح به بموجب القانون (…) لا يجوز الشك فيها”. مع حال المحكمة العليا اليوم، يجب أن يشك المرء فيما إذا كان هذا سينجح.
فكر في جميع الأشخاص والمؤسسات والبلدان التي تحتفظ بسندات الخزانة باعتبارها الأصول الأكثر أمانا وسيولة في العالم. حتى الانقطاع القصير في المدفوعات يمكن أن يكون مدمرا للثقة، ليس في سندات الخزانة فحسب، بل في أسواق المال. قد يتم تجاهل إمكانية التخلف عن السداد باعتباره أمرا غير واقعي. من المؤكد أن تجربة حدوث ذلك ستكون حقيقية للغاية.
علاوة على ذلك، ستكون بمنزلة صدمة كبيرة للثقة في الولايات المتحدة. يؤكد مايكل سترين من معهد أمريكان إنتربرايز المحافظ أن “القادة الأجانب والمستثمرين العالميين سينظرون إلى الولايات المتحدة ويرون صورة مدمرة. في هذا النظام المعطوب، لا يحترم كثير من المسؤولين المنتخبين نتائج الانتخابات الرئاسية ويسمحون للخلافات حول السياسات والخلافات الأيديولوجية بالوقوف في طريق احترام الالتزامات المالية للحكومة. قد يفكر المستثمرون بجدية أكبر بشأن تخصيص رأس المال للكيانات الأمريكية، وسيضعف دور أمريكا باعتبارها منارة للقيم الليبرالية بشدة، بما في ذلك الأسواق الحرة”. بكل بساطة، سيستنتجون أن المعاتيه تولوا زمام الأمور.
حتى لو تم تجنب الأسوأ هذه المرة، فإن تكرار لعبة الدجاجة هذه يزيد من احتمالية حدوث الانهيار. قدم جلين هوبارد، الرئيس السابق لمجلس المستشارين الاقتصاديين لبوش، اقتراحات معقولة. ما نحتاج إليه هو في الواقع حل طويل الأجل، يتم فيه استبدال مسرحية سقف الديون بوضع ميزانية متماسكة طويلة الأجل. إن المسار الحالي لديون الولايات المتحدة يجعل هذه المقترحات ضرورية.
لكن، مقابل ذلك، حقيقة أن الجهود التي بذلها الرؤساء الديمقراطيون، مثل بيل كلينتون وأوباما، لخفض العجز المحتمل بالكاد سمحت للجمهوريين بخفض الضرائب عندما عادوا إلى السلطة. بالنظر إلى ذلك، هل ستكون هناك إرادة سياسية لوضع احتياجات البلد فوق المصلحة الحزبية؟ كما أن هذا ليس فشلا مساويا. يقع اللوم على الجمهوريين بشكل كبير. إنهم يستخدمون تهديدات التخلف عن السداد لتحقيق تخفيضات في الإنفاق والضرائب، وليس خفض العجز، الذي لم يتمكنوا من تحقيق انتصارات انتخابية حاسمة بسببه.
في النهاية “إنها السياسة”. السبب الوحيد الذي يجعل من الممكن تصور التخلف عن السداد هو عمق الخلاف في البلد وكذلك الكونجرس. لو كانت الولايات المتحدة أقل انقساما، فلن يكون سقف الديون مهما. لكن في الولايات المتحدة المنقسمة اليوم، إنه مهم. وطالما استمرت هذه الانقسامات، فسيظل خطر التخلف عن السداد موجودا. حتى إذا تم التوصل إلى اتفاق مؤقت، فمن المحتمل أن يعود التهديد قريبا.
Provided by SyndiGate Media Inc. (Syndigate.info)-
نشر أولاً في الاقتصادية السعودية