لأننا عجزنا عن إدارة تنوعنا واختلافنا بشكل ديمقراطي، فقد فشلنا في خلق وطن وتكريس مواطنة؛ والعكس. وإذ نزعم أننا نريدها دولة مواطنين عادلة، فثمة من استمروا يستبسلون من أجل أن تكون دولة امتيازات لمراكز القوى فقط. لأننا عجزنا عن إدارة تنوعنا واختلافنا بشكل ديمقراطي، فقد فشلنا في خلق وطن وتكريس مواطنة؛ والعكس. وإذ نزعم أننا نريدها دولة مواطنين عادلة، فثمة من استمروا يستبسلون من أجل أن تكون دولة امتيازات لمراكز القوى فقط.
ثم بعد عقود على مرحلة الاستقلالات والثورات الأم، اكتشفنا أننا لم نغادر بعد ذهنية الانقلابات العسكرية، ومشاريع التطييف، وترهيب التفكير بالتكفير جراء الاستغلال السياسي للدين.
وهكذا: اكتشفنا أيضاً أننا قد تخلفنا فوق مستوى التصور عن بناء الانسان، ولم نتجاوز عصبياتنا القبلية والسلالية والمذهبية التي لاتحترم الدستور والعقد الاجتماعي والمساواة.
فيما النتيجة الصادمة التي لا أسوأ منها، هو أننا كنا ومازلنا نتقاتل على من يستأثر بالدولة وينهبها أكثر. والحال أن كل المآزق التي صنعتها الدولة العربية المتسلطة على مدى عقود، راكمت منطق الاستبداد التبريري الشائع، كما جعلت غالبية الأفراد لا يتصورون أنفسهم بدونها.
فالدولة المتسلطة تحتكرها أقلية تجعل نفسها هي الدولة والمجتمع معاً، وهي بذلك دولة إكراه وترغيب وترهيب؛ دولة هيمنات انتهازية ووصولية وأمنية، دولة فساد سياسي ومالي وإداري، دولة إقصاء ومحسوبيات وغلبة.. دولة غير مبنية على أسس الكرامة والحداثة والمساواة أمام القانون، بقدر ماهي دولة زائفة وطفيلية وضد التفكير النقدي والحالم، دولة بلا ابتكار مستقبلي وبمسوغات ماضوية مكدسة، ضد المشروع الوطني الجامع، ولا مكان فيها لحقوق وحريات الإنسان.
بمعنى أنها دولة لتعزيز إجراءات التخلف الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، لا تقوم على تبادل السلطة لأنها لا تأبه للفضيلة الديمقراطية أصلاً، في حين لا تراجع نهجها الخاطئ على الإطلاق باعتبارها منزهة ومعصومة.
وبالتالي فإن الدولة العربية المتسلطة ليست دولة الشعب كمصدر للسلطات وإنما دولة الجماعة كمصدر للسلطات.. دولة رعايا لا دولة مواطنين، دولة غير وطنية باختصار.
وإذ أعاقت على مدى عقود أن يكون العقد الاجتماعي هو الوسيط بين الدولة والمجتمع، فقد أبدعت فوق مستوى المعقول واللامعقول أيضاً في خلقها مجتمعاً مشوهاً، ومقموعاً، بل وراضياً بمصيبة الدولة المتسلطة في أغلب الأحوال.
على أن اضطرامات وانفجارات التحول لا بد أن تحدث داخل الدولة المتسلطة حتى ولو تأخرت.
بالمقابل فإنه التحول الطبيعي والشاق الذي يرج أعماق المجتمع رجاً شديداً لتطفو أمراضه المتراكمة على السطح، وتحديداً هو التحول الذي يمثل قيمة وطنية عليا لا يمكن تعويضها حال عدم الاستفادة منها كما ينبغي، بل لعل القيمة الأروع في خضم هذه المعادلة ذات المشيئة الحتمية الجبارة، تتكثف جيداً في اندلاع أسئلة الماضي والحاضر والمستقبل في وجه الجميع، كما رويداً رويداً سرعان ما تحدث مستجدات مادية وروحية ذات أثر ملهم وعاصف في القيم العامة والخاصة.
وبالمحصلة يعلمنا التاريخ أنه مع افتضاح أجهزة الدول التسلطية وحلفائها أمام المجتمع المخدوع والمقهور، حتماً لا يرضى المجتمع آنذاك بأقل من استعادة جذوته المسلوبة والمهدرة.
كذلك بينما يكون المجتمع أمام حالة استثنائية من جماليات تعافيه الخلابة وهو يتمرد أكثر على قيم الولاء التاريخية الشنيعة، تتهشم حينها وباطراد نوعي، ذهنية الاحتكار الهشة للدولة المتسلطة بحيث تتجلى كدولة عصابات مرفوضة مكللة بالقبح التاريخي البائد الذي من الصعب طبعاً استمرار التصالح معه والرضوخ لفظاعاته.
والثابت أن كل ما يجري من استبداد وتدهور وإرهاب في الشعوب والبلدان العربية، سببه الرئيس، ذلك الفشل الدؤوب في بناء الدولة الوطنية الديمقراطية والمتنورة.
فمن الديكتاتوريات العسكرية إلى الديكتاتوريات الدينية المهيمنة على العقل العربي والعكس، ما زال مشوار عقود من الخيبات والأوهام مستمراً.
لكن الثابت في هذا السياق أنه لا يمكن للمواطنة المتساوية أن تتحقق، كما لا يمكن للمجتمع أن يتطور، إلا في ظل الدولة الوطنية المدنية باعتبارها دولة للجميع، أضف إلى أن معيارها السوي يقوم على أساس الشفافية في الحكم وتنمية التقدم، والانتقال السلمي، ومحاسبة الفاسدين دون محاباة، مع إبراز الطاقات الخلاقة في المجتمعات والدول.
ولقد حان الوقت بالضرورة لإعادة النظر بالنخب وخياناتها للأحلام الكبرى، بالذات في انحيازاتها ما قبل الوطنية، ونقدها في الصميم. ثم إن الدولة العسكرية مثل الدولة الدينية تشكلان دولة داخل الدولة جراء نزعتهما الشمولية القسرية في السيطرة على السلطات وصبغ حياة المواطن في ظلها بحالة الطوارئ، إذا جاز التعبير، إضافة إلى صناعة مراكز الهيمنة والنفوذ المعيقة والمستغلة التي شلت حركتنا عقوداً.
والحاصل اليوم، كما نشاهد بوضوح، هو أن التحديات مستمرة، مع أن مطالب الحريات والحقوق وازدهار الوعي أبداً لن تتوقف.
صحيحٌ أن هناك عديد إشكاليات بنيوية تقف ضد تحقق دولة المواطنة والمؤسسات والقانون والحداثة؛ إلا أن الحراك الجماهيري الزاخر -كما تفيد كل المؤشرات -لا بد أن ينتعش بين فترة وأخرى بمطالب الاصلاحات على النظم السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تم تكريسها حد اليأس، وهو بالتأكيد حراك حيوي لانتقال المجتمعات والدول من دائرة الماضي التي لا أسوأ منها وترميم الذات الوطنية بممكنات الأمل، فيما يمثل جزء أصيل من حركة التاريخ الموضوعية للتجاوز والإبداع وبلوغ آفاق أجد ذات وعي أنضج للمقاومة والرفض، كما بلا استسلام من أي نوع لكل تلك الموروثات الآثمة.
وأما الصواب الوطني اليمني؛ فينبغى أن يفرض علينا عدم الاستمرار في عبء الاحتكارات والهيمنات الثأرية المتوالية، لنجدنا في غيبوبة دوامة الاستقطابات اللا وطنية، والتسويغ النهائي لانهيارات الهوية الوطنية، والاستلذاذ بالتمرغ في الهوية الطائفية. وبالتالي الرضوخ الطائش لما تقرره إرادات جماعات القوى اللاوطنية، لا الانفتاح على البرامج واحترام سمة التعدد الوطني، وإرادة الاختيار الحر، وعدم اختزال اليمن بتكتيكات جماعات المصالح واستراتيجيتها الأصولية والجهوية، الشرهة واللا عقلانية.
والخلاصة أنه يجب تقديم مثال وطني فارق في كفاحنا الإصراري الحالم بيمن جديد، يجلب الطمأنينة والسلام إلى اليمنيين، لا الإعلاء من شأن السلاح والعصبويات، ووراثة دور الإفساد ومصادرة الدولة وتجييرها، والاقهار للمختلف، واحتقار كل مساعي ونضالات الحركة الوطنية من أجل الإصلاحات والعدالة؛ ومن ثم الرمي عرض الحائط بكل ما تراكم من وعي ديمقراطي وأساليب تداولية معاصرة، تبقى ذات إجماع على الرغم من كل سوء الانحرافات التي حدثت سابقاً، ولطالما عانى منها الشعب اليمني العظيم وهو في طريقه الكفاحي الموضوعي الطويل الذي لا يجب التراجع عنه بأي حال من الأحوال، باعتباره الطريق الذي يوحد طاقات اليمنيين ولا يقسمهم؛ ولذا يجب العمل على تنميته وتوسيعه وتحصينه، والاستمرار بالخوض السوي فيه وفق خطوات وإنجازات حيوية تنشد الصواب الوطني وصنع التراكم الإنجازي الخلاق الذي ستصل عبره اليمن إلى ما تنشده من مستقبل يجلب الاعتزاز والسعادة لكل اليمنيين.