إن سنة ونصف من حالة التجريف الفكري وزرع العبوات الناسفة في عقول الجماهير اليمنية واحتكار كل الأجواء التي تهيئ للتفكير السليم الواعي والمنفتح، تجعلنا نؤمن بأن الفجر الذي ينشده اليمنيون سيبزغ من شرق آخر، وفي لحظة تغرب فيها أفكار الطائفة الحوثية، والى الأبد. هرب الحوثيون من إرث عائشة رضي الله عنها التي قالت فيما يروى عنها حين سئلت عن أخلاق رسول الله: (كان قرآنا يمشي على الأرض).. وحين أعجب الحوثيون هذا التشبيه اقتبسوه وحوروه وقالوا عن حسين بدر الدين الحوثي مؤسس الجماعة الحوثية إنه: (قرآن ناطق)، في صحيفة صدى المسيرة الصادرة مؤخرا.
والمعنى الذي يفهمه المتلقي لأول وهله (أن كل ما جاء في كلام قائدهم المؤسس يتطابق مع القران).. ويضع الطرف الآخر من غير أتباع الجماعة الحوثية هذه العبارة في قفص الاتهام ويعرضونها للمحاكمة الفكرية.
ويقول بعضهم إنها أهانت القرآن، وإن كنت أتفق في إشكالية هذه الكلمة إلا أن منطلقاتي ربما تختلف مع البعض في أن وراء الكلمة من الألغام الفكرية ما يجعلها مهينة، وتؤكد ما تكرره التجارب من أن هذه الجماعة تتحرك في الفضاء السياسي والاجتماعي والفكري العام بواحدية العقل الطائفي الذي يكنس بأدوات العنف والتزييف بقية العقول المختلفة والمعارضة له.
أين هذه الألغام المخفية بعناية في ثنايا هذه الكلمات، وماهي الإشكالات؟ نحاول أن ندل القارئ بإيجاز عن هذا في هذه السطور القادمة
1) كانت عائشة تتحدث عن المصطفى محمد عليه السلام وهو في مرتبته المحفورة في الوعي الديني لعموم الجمهور اليمني المتدين تقترب من منزلة القداسة، فهو أفضل الأنبياء بل وهو من ائتمنته السماء في إبلاغ كلام الله.. فيمكن فهم أن خلق محمد (وهو سلوكه التطبيقي) كان مطابقاً للقرآن وتتقبله الأمة المؤمنة بعظمة هذ الإنسان بيسر.. وهي أيضاً دعوة جيدة لمطابقة أخلاق المرء وسلوكياته في حياته مع ما يقرأه في القرآن الكريم.. بينما حسين بدر الدين الحوثي قائد ديني لجماعة محدودة، ولا يمكن أن توصف كلماته التي ولا شك مليئة بالقناعات التي تخصه وحده وجماعته ومحاولة جعلها متماهية مع القرآن؛ إنها محاولة تستهدف اللاوعي اليمني المتدين بأن كلمات قائد الجماعة الحوثية والقرآن شيء واحد!!
أي أنها عباره تحمل في بطنها دعوة طائفية تستغل القرآن وقداسته عند هذا الشعب المسلم. وهذا لغم فكري تزرعه الجماعات الدينية على اختلاف منطلقاتها الفكرية في سعيها لامتلاك السلطة المعرفية أو السياسية.. ماهية هذا اللغم هو الخلط بين ما هو بشري يعتريه الخطأ والصواب على مستوى الأفكار أو حتى التحركات، فالبشري نسبي وبين ما هو مقدس أو مطلق بلغة الفلاسفة؛ ونقصد بالإطلاق والقدسية هنا منع اقترانه بالخطأ والضلال.
2) هذه الدعاية الحوثية هي محاولة لتسويق مرجعيات الحوثي الفكرية التي تحتكر المجال العام وأدوات الإعلام بلا استثناء، وعلى رأسها الصحافة الورقية، وهي جريمة تضاف إلى جرائم الحوثيين التي ابتليت بها اليمن منذ انقلاب 21 سبتمبر… فأن يتلقى هذا الجمهور المتنوع والخليط في ثقافته الدينية والطائفية والمناطقية والسياسية صحيفة المسيرة فقط فهذه جريمة تستهدف سلامة التفكير السليم، والذي من أهم شروطه المدخلات المتنوعة وليست الأحادية.
3) ربما ساء الحوثيين الهجمة التي يتعرض لها قائدهم المؤسس والذي اختار الحوثيون هذه الأيام توقيتا للاحتفاء بذكرى وفاته. ونشر صوره وشعاراتهم في كل فضاء المجال العام.. وقامت النخب الثقافية والإعلامية والسياسية المتنوعة التي وحدتها سياسات الحوثي الفاشية، كرد فعل طبيعي وفق قوانين فيزياء الاجتماع. فعمد الحوثيون ومن أجل تسوير قناعات أفرادهم التي، بلا شك، هزتها تلك الحملات الإعلامية بالتمترس وراء القرآن، والحال سيكون وفق هذا المنطق (أنك تستهدف القرآن حين تستهدف القائد).. يعمد الحوثيون إلى إلصاق كل تصرفاتهم وتحركاتهم على الأرض بالقرآن. مشروعهم السياسي هو المسيرة القرآنية، وأي صوت يعارض سياساتهم البشرية هو وقوف ضد المسيرة القرآنية!!
وها هي كلمات قائدهم تتطابق مع كلمات القرآن، وانتقادها بلطف أو بحدة يعني أنك تستهدف القرآن.. التاريخ والواقع مليء بهذا التلبيس الخبيث. كما وأن الأفكار التي لا تجيد صنع صيغة علنية تؤهلها لأن يقبلها الناس تتمترس دائماً وراء أي شيء مقدس لتحمي نفسها وتشرعن تصرفاتها المشينة.
يتكرر هذا التصرف بشكل فاضح ومنهجي من جماعة الحوثي والقاعدة.. وهذا الوعي الدوغمائي يؤشر لحالة من ضعف هشاشه لهذه الأفكار، لأن أي فكرة حسنة وجميلة تحمل مؤهلات قبولها وقوتها في أحشائها، ولا تحتاج إلى أي اسناد أرضي، فضلاً عن أن يكون سماوي، وكما لا يخفى على العقل الواعي أن القوي لا يبحث عن الاسناد.. ثم في أي خانة يمكن أن نضع الممارسات الحوثية التي داست على الإنسان اليمني. هل هو القرآن الذي يدمر المنازل ويختطف الإنسان ويدوس على حقوقه؟ هل هو القرآن الذي يستخدم أساليب اللصوصية البدائية في مؤسسات الدولة؟ هل القرآن مخادع وناكث للعهود وكذاب؟!! (أستغفر الله).
4) هل هذه فلتة لسان من إعلام الحوثي الذي دأب يقدم نفسه ويسوق جماعته بالصورة الحداثية التي تقبل التنوع والحرية وتحافظ على الإرث الجمهوري ومخرجات ثورات هذا الشعب وآخرها مخرجات الحوار الوطني والذي هو أحد ثمار ثورة فبراير المجيدة؟
لا يبدو الأمر بهذه الصورة، بل إن الشواهد المتكررة يومياً من إعلامهم، أفراداً أو مؤسسات، تسوقك نحو يقين بنية واضحة بتعمد هذا الأمر.
فعلى مستوى تعاطي أفراد الجماعة مع المؤسسات الاعلامية التي يستحوذون عليها أو ما يطفو على السطح من تغريدات نخبهم يظهر لك في أسبوع واحد مثلاً: عبد السلام الكبسي وهو أكاديمي يعمل محاضراً في الجامعة في تغريدته التي تنبش تاريخاً قديماً وتستهدف بعض الصحابة وتلصق بعلي (كرم الله) وجهه مجازاً لا وبإرث علي المحفور في وجداناتنا المحبة. واليوم تتصدر صحيفة تتبع الحوثيين صورة كبيرة لقائد الجماعة وتجعل كل كلامه يتماهى مع القران.. عوضاً عما نشرته صحيفة الثورة التي عين الحوثيون رئيساً لها، تنشر قبل غضون شهور استهدافاً للسيدة عائشة، رضي الله عنها، وصحيفة الثورة حكومية وتمول بأموال الشعب لا بأموال الجماعة.
يفعل الحوثيون ذلك عمداً أو أن هذا الذي ينشر إن أحسنا الظن، هو صدى طبيعي لحالة الشحن الطائفي.. ويستنتج القارئ أن الحوثي يهتم بغرس الدوغما في نفوس أتباعه..
إذا كانت الأفكار هي المقدمات الطبيعية لشكل الحاضر والمستقبل، فإن سنة ونصف من حالة التجريف الفكري وزرع العبوات الناسفة في عقول الجماهير اليمنية واحتكار كل الأجواء التي تهيئ للتفكير السليم الواعي والمنفتح، تجعلنا نؤمن بأن الفجر الذي ينشده اليمنيون سيبزغ من شرق آخر، وفي لحظة تغرب فيها أفكار الطائفة الحوثية، والى الأبد.