يهود اليمن في كتاب عن الأمثال الشعبية
تبقى سيرة الأجيال السابقة محفوظة في الذاكرة، وهي خلاصة تجارب تداولناها عبر الحكايات والمرويات والأمثال التي وصلتنا، وتأتي قيمة الأمثال باعتبارها شاهدة على وقائع وأحداث جاءت على أشكال مختلفة في تعبيرات متباينة، ولكنها تجتمع في المغزى والعبر. والعالم العربي يحفل بالحكم وبالأمثال الشعبية التي تختلف في ألفاظها ولكنها تلتقي في مضمونها مع اختلاف مصادرها، فهي ببساطة تعبير تلقائي عن موقف أو حدث يأتي مختصرا ولكنه مشحون بطاقة بلاغية كبيرة. يمن مونيتور/العرب اللندنية
تبقى سيرة الأجيال السابقة محفوظة في الذاكرة، وهي خلاصة تجارب تداولناها عبر الحكايات والمرويات والأمثال التي وصلتنا، وتأتي قيمة الأمثال باعتبارها شاهدة على وقائع وأحداث جاءت على أشكال مختلفة في تعبيرات متباينة، ولكنها تجتمع في المغزى والعبر. والعالم العربي يحفل بالحكم وبالأمثال الشعبية التي تختلف في ألفاظها ولكنها تلتقي في مضمونها مع اختلاف مصادرها، فهي ببساطة تعبير تلقائي عن موقف أو حدث يأتي مختصرا ولكنه مشحون بطاقة بلاغية كبيرة.
شخصية اليهودي في المثل اليمني
يتتبع كتاب “ذاكـرةُ الزُّنار.. قراءة لصورة اليهودي في المثل الشعبي اليمني” للباحث عبدالحميد الحسامي الصورة الموضوعية التي يرسمها المثل اليمني لليهودي من كافة الزوايا وهي صورة مهمة؛ لأنَّها تختلف عن الصور التي يقدمها المؤرخون والكتاب، لأن المثل يتميز بتلقائيته، وبُعده عن الرقابة الرسمية، والاعتبارات السياسية، إنه صوت المجموعة، لذا يقدم صورة اليهودي في أبعادها العقدية، والمهنية، والأخلاقية، واللغوية، والعاطفية، دون تجاهل البنية الفنية التي احتضنت تلك الصورة.
ويكشف الكتاب عن طبيعة الصورة التي شُكلت في المثل اليمني، أو شكّلها المثل اليمني، لليهودي في تفاعله وتعاطيه مع المجتمع بوصف اليهودي جزءا من النسيج الاجتماعي للمجتمع اليمني الذي نشأت فيه الأمثال، أو أنشأ الأمثال، كما يقوم البحث بفحص تلك الصورة من منظور ثقافي يتعقب النص المتجسد في المثل، ويسبر أعماقه، ينبش في مدلولاته القريبة والبعيدة، مراعيا تكامل الصورة في الأمثال الخاصة باليهودي سواء تلك الأمثال التي تفوّه بها اليهود، أو التي قيلت عنهم.
المثل والثقافة
يقرأ كتاب “ذاكـرة الزّنار.. قراءة لصورة اليهودي في المثل الشعبي اليمني”، الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والنشر، المثل اليمني، والتفاعل السياسي والعلاقات الاجتماعيةَ والعادات والتقاليد، كما يقرأ اليهودي بوصفه نصا، ونفسا، فاعلا ومنفعلا. ويكشف الكتاب عن جدلية العلاقة بين الذات والآخر، وبين الذات والذات، بين الماضي والحاضر. إضافة إلى حديثه عن تفاصيل الذاكرة الثقافية في تشكلها وتشكيلها للوعي الجمعي، فالكتاب عبارة عن قراءة ليست لملء الفراغ، ولا لتحقيق التسلية، بل هي قراءة تنزع نحو نقد الثقافة من خلال قراءة زاوية من زوايا الفعل الاجتماعي؛ لفهمه وتقويمه والاسترشاد به في حركة الفعل المعاصر، وهي بذلك تنتمي إلى حقل الدراسات الثقافية.
المثل اليمني يكشف عن العلاقة الجدلية بين المجتمع اليمني واليهود الذين يعيشون فيه، وهي علاقة نفي متبادل، وحين يحدث التقاء يكون مؤقتا
يبدأ المؤلف عبدالحميد الحسامي كتابه برصد وتحليل صورة اليهودي في المثل من الجانب العقدي والتعبدي، ثم المنظومة الأخلاقية، ثم المهن، ثم العلاقة الجدلية مع الآخر، وأخيرا الصورة السلبية للالتقاء باليهودي، وينتهي بالبنية الفنية للمثل وأثرها في تشكيل صورة اليهودي، مؤكدا أن المثل الشعبي سجل مهم لحياة الشعب وحركته في الحياة “يعطي صورة حية ناطقة وصادقة لطبيعة الشعب بما فيها من تيارات واتجاهات ظاهرة وخفية على حد سواء”.
ورسم المثل اليمني عددا من الملامح الخاصة بصورة اليهودي، ومن هذه الملامح؛ الجانب العقدي والتعبدي: حيث يحفل المثل اليمني بعدد من المفردات التي تشكل صورة اليهودي في التزامه العقدي، وممارساته لشعائره التعبدية؛ ومن ذلك “اليَهْوَدَهْ في القُلُوبْ”، ويعني أن العقيدةَ محلُّها القلب، وليست في الأشكال والمظاهر، أو”اليهودي يَهُودِي، وَلُوْ أَسلَم ” وفيه دلالة على أن القيم التي يتمسك بها اليهودي تظلُّ لصيقةً به، محفورة في أعماقه، حتى ولو أسلم وتحول عن معتقده.
ويذهب الكاتب إلى أن المثل الشعبي اليمني قد جسد صورة اليهودي اليمني- ناظرا ومنظورا إليه- وهو يمارس حياته، ونشاطه في المجتمع المختلف عنه في الدين، والثقافة، ويعكس المثل ملامح تلك الصورة المتذهنة في الوعي الثقافي للمجتمع بوصف اليهودي آخر مختلفا، وبذلك فإن البحث يسهم في النقد الثقافي من خلال المثل الذي يعد ذاكرة أجيال، وخلاصة حياة، بالإضافة إلى أنه قد كشف عن صورة اليهودي في سلوكه العقدي، والتعبدي، متشبثا بمعتقده، مقدسا لمناسباته الدينية، متمسكا بمظاهره الثقافية التي تعد علامة على هويته مثل الزنار، والكوفية.
المنظومة الأخلاقية
من جهة أخرى يقدم المثل اليمني منظومة أخلاقية لليهودي في بخله وحذقه، واحتياله، وتجارته ومراباته، وربما استباحته للمحرمات، مبينا في الآن نفسه الوضعية الاجتماعية لليهودي والمستوى الطبقي الذي تمنحه إياه الثقافة وذلك يجعله يمتهن مهنا محتقرة في الوعي الاجتماعي، ومن ذلك تنظيف المراحيض، وندف الصوف.
“ذاكرة الزنار” صور حية وناطقة
ويكشف المثل اليمني عن العلاقة الجدلية بين المجتمع اليمني واليهود الذين يعيشون فيه، وهي علاقة نفي متبادل، وحين يحدث التقاء يكون مؤقتا، وتغدو المرأة، في الغالب، جسر العبور للقاء بين الطرفين، لكن بنية الاستغلال لجسد المرأة اليهودية تهيمن على تلك العلاقة، وقد تكون علاقة التقاء أيديولوجية حين يتنازل اليهودي عن دينه ويدخل في دين جديد، ويرصد المثل لحظات التقاء محدودة تجسد القيم الإنسانية لليهودي في تفاعله مع أبناء المجتمع من غير ملته، ولعل تخصص اليهودي ببعض المهن يجعله في دائرة التواصل مع المجتمع لكنه تواصل يتسم بطبيعته النفعية؛ إذ يقدم اليهودي خدماته بمقابل مادي لا يتنازل عنه، ويظل التحيز العقدي، والثقافي عائقا لحدوث أي التقاء حقيقي يتجاوز أسوار الثقافة، ويؤسس لحوار ثقافي جاد، بل نلحظ أن المثل الشعبي يكشف عن الموقع الهامشي الذي يحدده المجتمع اليمني لليهودي.
ومن ملامح شخصية اليهودي الحذق، حيث نجد العديد من الأمثال التي قيلت في هذه الصفة منها “حذق يهودي”. كما يضرب باليهود المثل في حب المال، والجشع على جمعه. كما أن اليهودي خبير في عالم التجارة، وله درايةٌ كافية بحركة البيع والشراء، وأثمان البضائع؛ ولذلك يصبح تقديره للسعر معيارا لقيمة الأشياء، فالمثل يقول “لا تِشْتَاطْ إلاَّ بعدْ يَهَوديْ”، والمثل يشير إلى قيمة إيجابية لليهودي تتمثل في الذكاء والخبرة في ميدان التجارة، مما يجعله قادرا على إدراك أسعار الأشياء، ويهيئ الطريق للآخرين لأن يشتروا بعده، بعد أن يكون قد حسم تقدير القيمة الحقيقية للأشياء. ومن جهة أخرى يكشف المثل عن بنية الاستغلال لليهودي من قبل المجتمع؛ إذ يغدو اليهودي وسيلة للعبور إلى عالم الأشياء وعالم الشراء، لأنه حاضر في هذا العالم، فهو يحسم (ويشتاط) والآخر يشتري، يقول المثل “من طلبهْ كلُّه، فاته كله”.
وعرف عن اليهود براعتهم في المهن، ومن المهن التي وردت في الأمثال اليمنية وِقَّار المطحن: حيث كان اليهود يعملون في تخشين الرحى؛ لتكون مناسبة لطحن الحبوب، ومن الأمثال التي أشارت إلى هذه المهنة “خَرْمَةْ مِوَقِّرْ”. وفي مجال ندف الصوف يقول المثل: “يُخْرِجْ مِنَ العُوْدْ عُوْدَيْنْ، عُوْدْ كُرْسِي خِتْمَة، وعود مَنْدَفْ يَهَوديْ”.