الجميع يسأل، ما سر هذه الحماسة والحيوية اللتين دبّتا في السياسة الخارجية السعودية، بعدما انطلقت الطائرة الحربية الأولى من مطار خميس مشيط قبل أكثر من عام، لتقصف مواقع الحوثيين في اليمن معلنة «عاصفة حزم» لم تهدأ حتى الآن، ليس في اليمن فقط وإنما امتدت بعيداً حتى ماليزيا وقلب أفريقيا؟ الجميع يسأل، ما سر هذه الحماسة والحيوية اللتين دبّتا في السياسة الخارجية السعودية، بعدما انطلقت الطائرة الحربية الأولى من مطار خميس مشيط قبل أكثر من عام، لتقصف مواقع الحوثيين في اليمن معلنة «عاصفة حزم» لم تهدأ حتى الآن، ليس في اليمن فقط وإنما امتدت بعيداً حتى ماليزيا وقلب أفريقيا؟
لماذا تصرّ السعودية على إخراج إيران من سورية مهما كلّف الأمر؟ وربما من العراق ولبنان أيضاً؟ لماذا حرصت الرياض على استعادة جزيرتي تيران وصنافير الآن من مصر، يسأل أحدهم، وهي تعلم ما سيسبّبه ذلك من حرج للنظام الحليف لها في القاهرة؟ لماذا الآن وقد تركتها عهدة هناك عقوداً طويلة؟ أما كان لها أن تنتظر عاماً آخر أو اثنين؟
الاستماع إلى صاحب «رؤية 2030» ولي ولي عهد السعودية الأمير الشاب محمد بن سلمان، وقراءة الرؤية يجيبان عن هذه الأسئلة.
«حنا عندنا ثلاث مناطق قوة مستغلة وغير مستغلة ولا أحد ينافسنا عليها»، يقول محمد بن سلمان في حديث متلفز بُثّ على قناة «العربية» الاثنين الماضي، هي باختصار «الإسلام، القدرة الاستثمارية الهائلة، والموقع الجغرافي».
في حديث خاص مع مجموعة صغيرة من الكتّاب وعلماء الدين والدعوة السعوديين يشرح أكثر، كيف أن المملكة هي راعية الإسلام الوسطي الحقيقي، ولا يجوز لا لإيران التي امتد نشاطها «الدعوي» بعيداً حتى إندونيسيا شرقاً ونيجيريا غرباً، ولا لـ «داعش» أو «القاعدة»، واللذين امتد نشاطهما ودعوتهما شرقاً وغرباً أيضاً، أن يمثلا الإسلام، وقد شرعت الرياض في مواجهة هذا التمدّد، وحققت نجاحات عدة، فالنشاط الإيراني ينحسر، بل إن دولاً عدة باتت تمنعه، وأخرى ذهبت حتى قطع العلاقات مع طهران، والحرب الفكرية على «داعش» و «القاعدة» ستأخذ بعداً أكبر، ليس بإرسال دعاة سعوديين، وإنما بدعم المؤسسات الإسلامية الرسمية والعريقة في تلك البلاد، إذ لا يوجد إسلام سعودي كما يزعم حتى الرئيس الأميركي باراك أوباما، وإنما «إسلام وكفى»، ما يذكرني ببرنامج رائع كان يبث ظهر كل يوم من إذاعة الرياض في الستينات والسبعينات الميلادية، وكان يقدمه الأستاذ زهير الأيوبي – رحمه الله – يُدعى «مسلمون وكفى»، يحمل رسالة التضامن الإسلامي التي صاغها ونجح بها الراحل الملك فيصل، خلال تلك الحقبة التي تبوأت فيها المملكة موقعاً مميزاً لدى الشعوب الإسلامية كراعية للإسلام الوسطي، وقد تردد ذكر هذا المصطلح الصحيح سياسياً وعقدياً غير مرة في «رؤية 2030».
القدرة الاستثمارية التي تريدها الرؤية أن تكون بديلاً عن الإدمان على النفط، مرتبطة أيضاً بالموقع الجغرافي، الذي يريد الأمير محمد بن سلمان استثماره لمصلحة المملكة ودول المنطقة، لكنه يصطدم بمشروع إيراني موازٍ، ولعل لدى القوم «رؤية 2030» تخصّهم، لكنها لا تتم عبر حسن الجيرة وتبادل المنافع وإحلال السلام والاستقرار، وإنما عبر ميليشيات، وتهريب أسلحة، ومؤامرات وانقلابات. الرؤية الإيرانية لا تقوم على المشاركة، وإنما على إخضاع الآخرين والتبعية لولي فقيه في طهران. في السعودية لا نفعل ذلك، وإنما نوقّع عقوداً، وتحالفات استراتيجية في ضوء النهار ومع حكومات قائمة لا أحزاب سرية وميليشيات.
لكي تنجح الرؤية السعودية في أن تكون المملكة المعبر الرئيسي لحركة التجارة العالمية بين ثلاث قارات، آسيا وأفريقيا وأوروبا، فهي في حاجة إلى جيران يشاركونها رؤيتها، وبالتأكيد لا يمكن أن يكون بينهم يمن تحكمه إيران بميليشيات الحوثي التابعة لها، ولا سورية يحكمها نظام طائفي تحت رحمة طهران، والبلدان هما شام الجزيرة ويمنها ومنفذها شمالاً وجنوباً.
نظرة سريعة على خريطة المنطقة تفسّر هذه العاصفة لإخراج إيران من عالمنا، ومعها التحالفات الاستراتيجية ومجالس التنسيق التي تبرم اتفاقاتها مع تركيا ومصر وأخيراً الأردن قبل أيام، وكذلك مع السودان وجيبوتي، ولا بد أن في الطريق اتفاقات مماثلة مع باكستان تحيي تحالفاً قديماً بين البلدين اعتراه وهن بتأثير الفتن التي سلّطت على إسلام آباد، وانقلاب مشرف، والتدخلات الإيرانية الطائفية المعتادة، وهي في صدد خطة تنمية تأخرت كثيراً، وضعها وزير التخطيط الباكستاني الحالي أحسن إقبال، والذي وضع رؤية باكستان 2020 قبل عقدين من الزمن، وأجريت معه وقتها حديثاً صحافياً، ثم ألغيت الخطة إثر انقلاب الجنرال برويز مشرف، وعاد إقبال مع حكومة نواز شريف قبل عام إلى غرفة التخطيط يحاولون إحياء رؤيتهم ورسمها مجدداً، بعدما ضيّعها الجنرالات، وتصادف أنه كان في الرياض الأسبوع الماضي حيث التقيته، فكان الحديث معه حول الرؤية السعودية وكيف أنها ستفيد بلاده.
أهم ما قاله، أن الخطط التنموية الطويلة الأمد تحتاج إلى استقرار سياسي، وضرب مثلاً بكوريا الجنوبية واليابان اللتين حكمهما حزب واحد عقوداً عدة، وهو ما يتمناه لبلاده. السعودية تنعم بهذا الاستقرار، ما يبرر المراهنة على نجاح رؤيتها، لكنها أيضاً ليست خطة تنفرد المملكة وحدها بمنافعها وإنما تشمل كل المنطقة، وهنا تختلف الرؤية السعودية التشاركية عن الإيرانية الأنانية، فرخاء الجيران يزيد من رخاء أهل الدار.
عودة إلى خريطة المنطقة، نجد أكثر من موقع مكمل للمشروع السعودي: دبي التي اكتملت تقريباً بنيتها التحتية وجعلتها «هب» للتجارة والمواصلات العالمية، ميناء الدقم في عمان، لوسيل المدينة الاقتصادية الطموحة في قطر، أبو ظبي وقوتها الاقتصادية، كلها ستربط رؤية المملكة 2030 مع أقصى الشرق الآسيوي، وغرباً حيث جازان ومدينتها الاقتصادية، ومدينة الملك عبدالله بمنتصف البحر الأحمر وميناؤها الذي يستطيع أن يتضاعف حجمه عشرين مرة حتى يتضاءل ميناء جدة الإسلامي بجواره، هنا الشريان الذي سيربط أفريقيا بأوروبا، يكمله جسر الملك سلمان الذي سيمر فوق تيران ويكون أهم معبر بري في العالم كما وصفه الأمير محمد بن سلمان. المفقود وسط كل هذه المواقع، وبما تضم من فرص عمل لمئات الآلاف من السعوديين والمصريين والأردنيين، والأفارقة والآسيويين، هو شامنا ويمننا، تأكلهما آلة حرب إيرانية، اختارت إيران المواجهة والعدوان عوضاً أن تكون شريكاً مكملاً مثل تركيا.
لذلك كله، تنشغل السعودية بجيشها، وديبلوماسيتها، ما ظهر منها وما بطن، في إعادة ترتيب أمن المنطقة، ووقف حالة الانهيار الذي تعيشه، من أجل أن يحيا ليس السعوديون وحدهم حياة آمنة كريمة، يعيشون «جودة الحياة»، وهو مصطلح رائع لا يجوز أن يمر عليه المحلل مرور الكرام وهو يقرأه في «رؤية 2030»، وإنما كل سكان المنطقة.
الشعوب لم تعد تريد إسقاط الأنظمة بعدما رأت ويلات ما بعد الربيع العربي، وإنما تريد «جودة الحياة»، لكن الأنظمة التي لا تريد ذلك يجب أن تمضي خارج التاريخ غير مأسوف عليها.
(الحياة)