كتابات خاصة

المفهوم وما ولد

يرد المفهوم ضمن حقول علمية عديدة، فيحضر لدى الأصوليين، ولدى علماء المنطق، ولدى أصحاب العلوم المعرفية المختلفة، ولا سيما اللسانيات الإدراكية (المعرفية) وعلمي النفس والاجتماع المعرفيين؛ على أننا سنقتصر في هذه المقالة العجلى على المفهوم في حقل العلوم المعرفية. وقد يكون من المفيد في سياق كهذا فض الاشتباك القائم بين المفهوم في العلوم المعرفية ومصطلح آخر يدانيه ولعله جزء منه؛ إنه المعنى فمن المعروف أن ثمة اشتباكًا حاصلًا بينهما يدركه المتخصصون. فما المعنى وما المفهوم؟ وما أوجه العلاقة بينهما؟ أو بصيغة أخرى للسؤال: أين يتقاطعان وأين يختلفان؟

لا تبدو الإجابة يسيرة في إزاء سؤال كهذا، ولا سيما مع اختلاف النظريات والمناهج التي تقارب المعنى، فالمعنى لدى السلوكيين هو الارتباط بين المثير الخارجي والاستجابة اللفظية للفرد. والمعنى لدى الإشاريين ما يشير إليه اللفظ. وهو عند المعرفيين الأفكار التي ترتبط باللفظ أو تناظره في ذهن المتكلم والمستمع. وسنمسك بهذا التحديد الأخير للمعنى أي المعنى لدى المعرفيين. فهل حقًا، المعنى هو الصورة الذهنية التي ترتسم في الذهن عندما ننطق بمجموعة من الأصوات؟ ثمة نقاش ذائع ومستفيض لدى الفلاسفة واللسانيين منذ عهد بعيد يمتد إلى أفلاطون.

وحقًا، يرى بعض الدارسين أن اللفظ دال يدل على المدلول أي المفهوم أو الفكرة، ويقول هؤلاء إننا حين ننطق بالكلمة مثلًا ترتسم صورتها الذهنية في الدماغ ويقولون إن هذه الصورة هي الفكرة أو المعنى. وثمة من يرى أن هذا تبسيط مخل، فالصورة الذهنية التي ترتسم في الذهن عن الشيء حين ننطق بالرمز أو اللفظ هي دال أيضًا للمعنى، مثلها مثل دال اللفظ، وأما المعنى ذاته أي الفكرة ذاتها فلا قدرة للذهن على إدراكها؛ إنها مخفية وراء الأستار. ولذا، ما ندركه بالفعل هو نماذج المخ عن العالم وليس العالم ذاته؛ فكنه العالم وحقيقته المطلقة لا سبيل إلى أن يدركه أحد. هكذا تحدث راي جاكندوف على سبيل الإلماع. وسنجد نقاشًا قريبًا من هذا في الثقافة العربية لدى بعض المتكلمين.

على أن ذلك لا يجعلنا نذهب بعيدًا، فنتصور أن الكلمات ليس لها معانٍ، فأي كلمة لها مكونان، الشكل والمعنى (ستجد هناك من يطلق عليهما اللوكسيم والسيميم)، وتشبه الكاتبة الإيطالية جيزيك الأشكال المعجمية (أي قبل أن تملأ بالمعنى) بالأرض، وتشبه المعاني بالكوكب في النظام الشمسي أو المادة على سطح الأرض.

وما دمنا نستطيع الفصل بين مكوني الكلمة أو الوحدات المعجمية فإنه يمكن أن نتخيل السيميات (المعاني) المجردة عن حواملها أي عن صيغها الشكلية بكيانات عقلية مجردة واسعة، هذه الكيانات العقلية المجردة يطلق عليها فلاسفة اللغة بالمفاهيم. فالمفهوم إذن من وجهة النظر هذه، أي المفهوم معرفيًا، هو كيان ذهني مجرد ومنفصل عن الشكل المعجمي؛ وهو، كما يقول زينايدا بوبوفا ويوسف ستيرين، الوحدة الأساسية للشفرة الفكرية للإنسان، ويحتوي على بنية داخلية مرتبة نسبيًا، وتكون نتيجة للنشاط الإدراكي للشخص والمجتمع؛ وهو إلى ذلك، يحمل معلومات موسوعية وشاملة عن الشيء أو الظاهرة التي يعكسها. أما المعنى فهو انعكاس الواقع المثبت في اللكسيم (الشكل Form). ثمة فكرة ذائعة لدى علماء البلاغة العربية أن الألفاظ أوعية للمعاني. وكل امرئ مسؤول عن معانيه فهو الذي ينشئها، وأن هذه المعاني مستقرة في النفس ثم يخرجها المتكلم في قوالب شكلية أي في كلمات وجمل، فالكلمات والجمل أوعية للمعاني.

ومن المهم الإشارة إلى أن أدمغتنا لا تسجل معاني الكلمات معجميًا فقط، وإنما تسجل كل ما يحيط بها من قواعد نحوية وصرفية ودلالية وسياقية وظروف حال ومعلومات موسوعية… إلخ. ولذلك، نحن نفهم من المعاني التي ندرك سياقها وظروفها أكثر من فهمنا لها خارج هذا السياق.

ولذلك، يقرر فلاسفة اللغة وعلماء اللسانيات أن المعنى القاموسي ليس كل شيء في إدراك معنى الكلام؛ ثمة عناصر غير لغوية لها علاقة مباشرة، بل لعلها تشكل جزءًا مهمًا من الكلام، وبدونها لا ندرك الكلام على النحو الذي يريد منشؤه الأصلي، ومن هذه العناصر شخصية المتكلم وشخصية المخاطب، وما بينهما من علاقات، وما يكتنف الكلام من ملابسات وظروف… إلخ. كل هذه العناصر تسهم إسهامًا مباشرًا في إيصال المعاني على نحو جيد إلى المخاطَبين.

تتفق المفاهيم والمعاني إذن في كونهما وحدات ذهنية مجردة في الوعي الإدراكي واللغوي للإنسان (المفهوم نتاج للوعي الإدراكي للإنسان والمعنى نتاج للوعي اللغوي له). وعلى هذا، فالمعنى جزء من المفهوم لأن المفاهيم ذات حمولات موسوعية وشاملة، ولذا توصف علاقة المعنى بالمفهوم بأنها علاقة الجزء الخاص بالتواصل مع الكل الذهني. على أن المعنى اللساني النفسي أوضح وأعمق من المعنى المسجل بالقواميس. ولذلك، كثيرًا ما يحاول القاموسيون شرح بعض الكلمات بوضعها في سياقات وإطارات معينة لعل في هذه المحاولة ما يسهم في تقريب المعنى وتوضيحه أكثر للقارئ.

ويؤكد علماء الاجتماع أن بعض المفاهيم التي تختزنها أدمغتنا مفاهيم بيولوجية أي إنها موجودة في أصل خلقة الإنسان، وكل منا يولد مزودًا بها؛ ويؤكدون كذلك أن جزءًا آخَرَ من المفاهيم يكتسبها الإنسان نتيجة تفاعله في المجتمع وتسهم الثقافة، وفي القلب منها اللغة (المعجم تحديدًا)، في تشكيل الكثير من مفاهيمنا وأطرنا الذهنية.

وبعد، قد يتساءل المرء: ما القيمة العملية لمثل هذا التنظير، وقد يصفه بأنه تنظير فارغ وعديم الجدوى أو القيمة! (لا ياشيخ!) دعني أهمس لك بخفاء: إن مشكلتنا اليوم تتلخص بهذه المفاهيم على النحو الذي ألمعنا إليه قبل قليل. كيف؟ هذه المفاهيم التي تختزنها أدمغتنا عن العالم وما يحيط بنا من أحداث وأشياء وحالات… إلخ، مسؤولة مسؤولية مباشرة عما يصدر عنا من قرارات وتصرفات في الحياة، فوجود المفاهيم بطريقة مشوشة أو ضعيفة في الذهن ينتج عنها قرارات أو تصرفات بلهاء أو ساذجة في الخارج. وفي المقابل، وجود مفاهيم قوية ومتماسكة نؤمن بها جيدًا ينتج عنها قرارات وتصرفات قوية وسليمة. وعلى سبيل الإلماع، وجود مفهوم الربوبية على ذلك النحو المهزوز في أذهان البعض أدى إلى عبادة غير الله تعالى “ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى” أرأيت! فإذا استقر مفهوم الربوبية في الذهن وأذعن الإنسان له إذعانًا كاملًا، فأيقن أن الله هو الرب، وأنه يملك كل هذا الأمر، يحيي ويميت ويضر وينفع ويدبر الأمر وبيده الرزق؛ وأن ما دونه من الآلهة محض هراء، كيف، وهي لا تملك من الأمر شيئًا! انصرف المرء تلقائيًا في أرض الله الفسيحة موحدًا مستسلمًا وخاضعًا لله وحده. ولهذا، حين يتنازع المرء أكثر من إله فإنه يعيش مضطربًا قلقًا، بينه وبين الأمن مساحات شاسعة مملوءة بالقلق والخوف والاضطراب. وتأمل معي: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾. ولا تعجب بعد ذلك لسلوك القرآن وإصراره في ترسيخ المفاهيم الكبرى في النفس الإنسانية، كمفهوم الإيمان والدار الآخرة وخلق الإنسان وسبب هذا الخلق ومصيره المحتوم… إلخ.

وقل مثل ذلك، في مفاهيم الوطنية، والديمقراطية، والحقوق، والحريات… إلخ مفاهيم الحياة السياسية ومفاهيم الحياة بشمولها. على سبيل الإلماع، لاحظ تشومسكي سوء استخدام مفهوم الديمقراطية لدى المتحدثين السياسيين الأمريكيين في خطاباتهم حول الشؤون الخارجية داخل الدول الديمقراطية، فعلى الرغم من أنهم يزعمون رغبتهم في أن تسود الديمقراطية العالم، وأن هذا الموضوع ثابت من ثوابت السياسة الأمريكية فإنهم يسمحون للجمهور بالموافقة على دعم الحكومة للديكتاتوريات والأنظمة الشمولية والتدخل ضد الديمقراطية في الخارج. وهذا يكشف أن مفهوم الديمقراطية مفهوم غير ثابت لدى الولايات المتحدة خصوصًا حين يتعلق الأمر بالدول الأخرى خارج الولايات المتحدة، وهو ما تعكسه قراراتها وتصرفاتها. وقل مثل ذلك مفهوم الإرهاب وغيره من مفاهيم الحياة السياسية، حيث التصرفات تكشف عن عدم الاقتناع بالمفاهيم، وأنها شعارات للتضليل والخداع فقط. وهذا ما جعل لسانيًا وفيلسوفًا أميركيًا، مثل تشومسكي يقول إن إساءة استخدام المفاهيم هي سمة منتشرة في الخطاب السياسي في وسائل الإعلام الغربية.

وجماع هذا النقاش أن المفهوم هو المسؤول عن نوعية ما يصدر عنا من تصرفات ومواقف وسلوك وقرارات في الحياة، وأن المفهوم المشوش يلد تصرفات مشوشة وسبيل إلى الضياع والتشتت؛ والمفاهيم المتماسكة تلد تصرفات سليمة وتبني إنسانًا سويًا.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى