في اعقاب ولادة (اليمن الثاني) واندماج جمهوريتيه الشمالية والجنوبية في كيان وطني واحد منتصف العام 1990م لاحت فرصة كبيرة امام اليمنيين للعبور الى عصر الدولة الضامنة لإحداث نوع من التوازن بين سائر الحواضن السياسية في اعقاب ولادة (اليمن الثاني) واندماج جمهوريتيه الشمالية والجنوبية في كيان وطني واحد منتصف العام 1990م لاحت فرصة كبيرة امام اليمنيين للعبور الى عصر الدولة الضامنة لإحداث نوع من التوازن بين سائر الحواضن السياسية والاجتماعية والهوايات الثقافية والمذهبية والجهوية والتأسيس لمرحلة جديدة تستند لمشروع وطني متكامل تشعر فيه جميع الاطراف بأنها من صارت محكومة بروح المواطنة المتساوية وقيم الشراكة المتكافئة والمصالحة الوطنية الشاملة بعيدا عن نزعات الاستئصال والإقصاء او دورات العنف والصراعات والحروب المتنقلة والقتل والقتل المضاد ومفاعيل الانتصارات الكاسحة إلا ان الجميع قد اضاع تلك الفرصة كما اضاعوا غيرها من الفرص نتيجة ضعف ثقافة الدولة وانحسار دور القوى والتيارات المدنية وطغيان الاعراف القبلية والعصبويات الماضوية في الوسط الاجتماعي على فكرة الدولة لتتحول تلك العوامل الى ادوات معيقة وكوابح بيد كل من يحمل السلاح ويمتلك القوة التي تمكنه من املاء شروطه على طريقة شيخ القبيلة الذي يصوغ القرارات ويحدد المسارات لكل من يدينون له او من يقفون بالضد في انتظار اللحظة المناسبة لانتزاع القوة من بين يديه وإشعال حريق جديد يعيد خلط الاوراق وفق القاعدة الشمشونية التي تقوم على مبدأ هدم المعبد وتدمير اركانه الاربعة.
واذا ما رجعنا الى خصائص هذا العقل الذي يعتمد على مفهوم الصراع السائد على توجهاته سنجد ان الازمة العالقة الآن في اليمن ليست وليدة حالة ظرفية استثنائية وإنما هي امتداد لإشكالية تاريخية عانى منها اليمنيون طويلا قديما وحديثا اذ ظلت الحمية الحربية العسكرية تعلن عن تعقيداتها المتجذرة في ثقافة المجتمع اليمني في زمن الحرب وفي زمن السلم فقد اقتتل اليمنيون حينما كانوا على شكل دويلات ومشيخات وسلطنات خاضعة للنفوذ العثماني والبريطاني وخاضوا سلسلة من الحروب البينية الدامية بعد ان اصبحوا دولتين وكيانين وشطرين لكل منهما ايديولوجيته وفلسفته بالحكم ودخلوا في صراع عسكري مفتوح صيف عام 1994م بمجرد ان انصهروا في نطاق دولة واحدة يغلب عليها طابع التقاسم والمحاصصة في كراسي الحكم وعوائد الثروة الى درجة يصح معها القول ان آراء ابن خلدون التي وصف بها العرب بأنهم من اصعب الامم انقيادا لبعضهم البعض بفعل الغلظة والانفة والتنافس على الجاه والزعامة هي آراء ما تزال بكل ابعادها سارية عند اليمنيين الذين قل ما تجتمع اهواؤهم ومواقفهم على كلمة سواء.
واليمن وبعد هذه التجربة المريرة من الصراعات والحروب الداخلية المتوالية والتي لازال يدفع ثمنها في امنه واستقراره ودم ابنائه المسفوك وان كان من يبدو اليوم يعاني من اعتلال في وحدته الوطنية واعتلال استراتيجي في فهم معطيات العصر وتحولاته فانه من دخل عقب موجة (الربيع العربي) بتركيبته الهشة والواجفة متاهة سوداوية من العنف دون ادنى اكتراث لما تمثله من قصص انسانية مؤلمة وما تخلفه من ضحايا وما يتبعها من آثار الكارثة الناجمة عن ازمة الجوع والفقر ومرارة النزوح والتشرد بين ابنائه وحيال هذه الوضعية الصعبة والشاقة فإن اليمنيين بتعدد تنظيماتهم وانتماءاتهم السياسية والقبلية والعسكرية والمدنية معنيون في هذه اللحظة اكثر من أي وقت مضى بالاستفادة من كل دروس الماضي ومحن الحاضر من اجل العودة الى التصالح مع انفسهم ومع محيطهم بعد ان اثبتت كل التجارب والأزمات المتلاحقة التي مروا بها ان المآزق التي تلقي بظلها الثقيل على الوضع الداخلي في اليمن لا يمكن تجاوزها بدون مصالحة وطنية حقيقية تطوي صفحة الخصومات والحروب والاصطفافات الحادة والبغيضة التي طالما عبثت بأمن اليمن واستقراره حيث لابد وان تدرك الاطراف المتصارعة على وجه الخصوص ان المفاوضات التي ستخوضها في دولة الكويت وان لم تتسم بحوار جاد ومسؤول تنعكس نتائجه ايجابا على ارض الواقع فان هذه الاطراف تكون قد حكمت على نفسها وعلى وطنها بنهاية مأساوية وسديم من الدم والضياع.
لقد شاءت الصدفة ان يقع الاختيار على دولة الكويت لاستضافة المفاوضات اليمنية التي دعت اليها الامم المتحدة وما لم تفلح هذه المفاوضات في لجم منطق العنف والاتفاق على صيغة تجمع المتناقضات وتسمح لروح الانتماء الوطني للتعبير عن نفسها والبرهنة عن جدواها في تعزيز وحدة النسيج اليمني بما يمهد لحقن الدماء وإيقاف صوت المدافع والبنادق وخروج اليمن من الحلقة الجهنمية التي تدور في داخلها فلن نلوم المبعوث الاممي اسماعيل ولد الشيخ حين يقول لنا ان من يحركون المشهد في اليمن يحفرون بأسنانهم الطريق الى جهنم بعد ان امسك كل طرف بعداده الخاص واخذ يقلب فصول مسرحيته بما يخدم غاياته وأهدافه بصرف النظر عن ما ينتج عن هذه الرقصة الدموية من دمار وخراب وحروب مدمرة اشد شراسة وتطرفا لن ينجو من محرقتها احد.
لذلك فإن من ينشد الامن والاستقرار لليمن فعليه ان يساهم مساهمة ايجابية في تفكيك الالغام التي تقف في طريق المصالحة الوطنية وتطبيع الاوضاع السياسية وانتشال اليمن من تيه الصراعات العبثية التي تجذب العار على كل من يقبل باستمرار خليط الازمات يؤدي بهذا البلد الى التفتت والسقوط في مهاوي الانقسام والتقسيم.
نقلا عن جريدة الرياض