“تعز يستميت فيها القتلة”، مجرد جملة نسمعها ونعيشها، وتخنقنا العبرات، وتزيد أوزارها، مخلفة دماراً آخر، كالدمار الذي حل بأكثر الأشياء الجميلة في الحالمة، وكالدمار الذي سكن أوجه الناس وصار غائراً في قلوبهم، كما احتل المرض والجوع أجسادهم.
صديقتي الشرعبية “وفاء” تحمل في قلبها حبا كبيرا لـ” تعز”، ولأهل هذه المدينة، ولكل تفاصيلها.
كثيرا ما نتحدث معا عن شوارع المدينة التي نحن مفتونات بها، وأزقتها، ومنازلها العتيقة، وسكانها الطيبين، وخطّطنا كثيرا لمواعيد ستجمعنا، ذات نهار بعد أن تعود الحرب دون مخالب ولا ملامح، سنمر من الشنيني وشارع 26، وسنذهب إلى الجحملية والجمهوري، وثعبات، سنزور القلعة، والنسيرية، وقبة عبد الهادي السودي التي لم تعد كما كانت، سنزور الضبوعة، وعصيفرة، والبير، ووادي القاضي، وجبل جرة.
“تعز يستميت فيها القتلة”، مجرد جملة نسمعها ونعيشها، وتخنقنا العبرات، وتزيد أوزارها، مخلفة دماراً آخر، كالدمار الذي حل بأكثر الأشياء الجميلة في الحالمة، وكالدمار الذي سكن أوجه الناس وصار غائراً في قلوبهم، كما احتل المرض والجوع أجسادهم.
تلك صديقتي الجميلة، والتي كثيرا ما كنا نتحدث وبزهو، عن ثقافة أبناء “الحالمة”، ورقي تعاملهم، وحبهم لها، لكنها لم تعرف الوجه البشع لبعض أبنائها، إلا يوم أن حدثتها إحدى قريباتها، التي زارت “صنعاء” مؤخرا، عن تجربتها في “منفذ الدحي”.
شرحت لها كيف أن النساء هناك كن يعانين مرتين، بعد إغلاق الحوثيين المنفذ أمام الجميع، فلا يجدن مكانا يذهبن إليه، خطوات قليلة تفصلهن عن تلك المعاناة، لكن ذلك لا يحدث، فتعاني المرأة كما المئات الذين ذاقوا الويلات هناك. ذلك المنفذ الذي فضل البعض أن يذوقوا معاناة النزوح الإجباري المفاجئ، على العودة إلى منازلهم لتفقدها وغيره، حتى لا يمروا عبره.
تصفه لي صديقة أخرى اضطرت أن تعبر من هناك قائلة: “شعرت بأنهم صهاينة، وتذكرت الفلسطينيين”، وهي تكره أن تتذكر تلك اللحظات التي أجهشت فيها بالبكاء، بعد إساءة معاملتها وأسرتها هناك.
تقول صديقتي “وفاء” التي اكتشفت بشاعة “المتحوثين” الذين ينتمون إلى “تعز”، والذين ذاق أبناء مدينتهم على أيديهم أشد العذابات وأبشعها، “بصراحة التعزي عندم يتحول إلى شرير، يرجع حاجة وسخة وقذرة، ما يبقى فيه ذرة خير”.
بالفعل يا صديقتي، “المتحوثين” كانوا أسوأ من الحوثيين، وهم يتلذذون بتعذيب الناس في المنفذ، وخاصة حين يتعلق الأمر بالقنص البشع، الذي يحدث مثلا، بعد السماح للبعض بالمرور ثم قنصهم، أو قنص النساء في مواضع تسبب لهن حرجا.
تلك الجميلة “وفاء” التي باتت تسكن “صنعاء” المدينة التي تحتلها أرواح تخنق الوطن بحربها، حدثتها أيضا عن المطر، الذي جاء وحل معه خلاص كبير، إذ كانت عبارات المياه تمتلئ بأكوام القمامة، التي كانت تلوث هواء المدينة، كما لوثتها رائحة الموت القادم من الحوبان، وأماكن تمركز الحوثيين وأنصار صالح في المدينة.
اكتشفت وصديقتي في هذه الحرب، أن هناك الكثير من أبناء “تعز” لا تعنيهم مدينتنا، فلو كان الأمر كذلك، لكان خلاصها قد حدث ومنذ وقت مبكر، هو بالنسبة لنا اكتشاف، لأننا كنا نعتقد بأنها قبلة لقلوب كل أبنائها.
صديقتي لم تعد تجد مدينتها، فهي المدينة التي توزع الموت، واختفت بعض ملامحها، فكلما تذكرت الجامعة فيها تشاهد مبانٍ نال التخريب من أكثرها، وكلما تذكرت مسجد “السعيد” فيها، تذكرت أنه أغلق لأشهر، فالناس أصبحوا يخافون دخوله، حتى لا يتعرض للقصف أثناء تواجدهم، حتى قلعة “القاهرة” التي يحتضنها جبل “صبر”، قد تسببت تلك الجماعة وحليفها صالح بتدمير بعض ملامحها.
صديقتي.. ستترتفع البشاعة عن أرض مدينتنا يوما، كما لو كانت غطاء ترفعه يد ما، وسنطوف شوارعها النظيفة، ونسمع ضحكات أبنائها تتناقلها الرياح، فتختلط مع وشوشاتنا، وسنرى وجوه ضاحكة لا شاحبة أو قلقة خائفة، وسنتنفس هواء مدينتنا الذي تعرفه جيدا أرواحنا.