فرَّت من الحرب في اليمن إلى الفن التشكيلي: آمنة النصيري: لا أريد حبس لوحاتي في المعارض
يمن مونيتور/عُمان:
تتميز تجربة الفنانة التشكيلية اليمنية آمنة النصيري بالثراء والتنوع، وبالألوان الحادة الصريحة، في كل معرض لها يمكن تلمس مرحلة جديدة.
بسبب الحرب في اليمن توقفت آمنة النصيري قليلاً لتلتقط أنفاسها ولتسأل نفسها تلك الأسئلة المصيرية التي يرددها المرء بينه وبين نفسه حينما يجد ذاته في قلب معركة مهولة، لا قيمة فيها للإنسان. حرب قد تعصف بحياة الأصدقاء والأقرباء والجيران، لكنها عادت إلى لوحاتها بقوة مستمدة منها جذوة النار التي تساعدها على الإكمال.
آمنة النصيري ليست فنانة تشكيلية فحسب، لكنها ناقدة أكاديمية، ومنظِّرة للفن والفلسفة وعلم الجمال، وهذا الحوار يسعى لتقديمها في كل وجوهها.
- في البداية دعيني أسألك.. كيف كان تأثير الحرب في اليمن على وعيك؟
الحرب وتداعياتها وضع من الصعب أن يُوصف. خلال سنوات عمري كنت قد قرأت عشرات الروايات والمذكرات والكتابات والشهادات التي تمحورت حول الحياة في ظل الحروب، وشاهدت عدداً لا يُحصى من الأفلام التي صورت بشاعة وعنف الصراعات وانعكاساتها على البشر، لكن أن تقرأ وتسمع وتعرف شيء، وأن تعيش الحدث وتعاينه ويقترب الموت منك عدة مرات وفي كل مرة تظن أن لا نجاة فذلك شعور آخر، ما زلت عاجزة عن الكتابة حول هذه التجربة بالرغم من إلحاح الأصدقاء من الكتاب لتسجيل ما يمكن أن يكون أشبه بيوميات أو انطباعات عن تفاصيل أيامي خلال السنوات الثماني الماضية وسط حرب طويلة لم نعد نثق نحن اليمنيين بأنها ستنتهي يوماً ما، فجميع المؤشرات لا تبشر بمستقبل مستقر للبلاد.
طيلة السنوات الثلاث الأولى من اندلاع الحرب بقيتُ في حالة من الذهول، وتوقفت عن الرسم والكتابة، مكتفية بالعمل الأكاديمي والقراءة، كنت أقرأ كل ما أصل إليه عن الحروب، وأستعيد الأحداث التاريخية والصراعات العظمى على أمل أن أستوعب ما يحدث، أو أن أخفف من وقع الأمر وفداحة تأثيره عليَّ دون فائدة، ذلك لأن الأهوال والتداعيات التي تصاحب الحرب تبدو كدوائر متصلة من الجحيم والمعاناة تجعلنا نرمي وراءنا كل المخزون النظري، هكذا مرت الأعوام الثلاثة، إلا أن استمرار الوضع، وتراكم شعوري بعدم الرضا لابتعادي الطويل عن مرسمي بالإضافة إلى الكثير من المشاعر السلبية والألم في داخلي عوامل شكلت دافعاً قوياً لكي أستعيد نفسي وأقر لذاتي بأن وسيلتي الوحيدة للخلاص من كل هذه المشاعر يكمن في العودة لممارسة الفن، فاللوحة هي اللغة التي أطرح من خلالها رؤيتي وشعوري بل ومواقفي، هكذا وجدتني أعاود الرسم وأعاود الكتابة في الفنون وبصورة مكثفة ربما أكثر من ذي قبل، وسأعود إلى سؤالك عن تأثير الحرب في وعيي، فمن المؤكد أنني لم أعد ذات الإنسانة التي كانت، فتجربة الحرب وتبعاتها التراجيدية، ومعاينتي للتبدلات التي تصنعها في المواقف والقيم الأخلاقية والإنسانية لدى الكثيرين، والدمار الذي تخلفه في النفوس مثل سيادة الروح العدوانية والجشع والانتهازية لأشخاص كانوا على طرف نقيض، كل ذلك جعلني في مراجعة مستمرة لقناعات سابقة لم أُخضعها لاختبارات حقيقية، وبالرغم من الإحساس بالمرارة إلا أنني بت أحرص على عدم فقدان الثقة بالبشر وعلى التمسك بكل ما هو إنساني وأحاول النظر إلى المتغيرات العنيفة والقبح الذي أصاب عدداً كبيراً من البشر الذين تشاركنا وإياهم في الماضي عالماً خيراً، بأنها حالة طارئة ستفارقهم مع زوال الصراع، فأسوأ ما يمكن أن يطالنا في حالة كهذه هو تحولنا إلى كائنات مشبعة بالقسوة وبالكراهية.
- بدأت الرسم منذ كنتِ طفلة صغيرة.. من اهتم بك في هذا التوقيت وكيف نميت موهبتك؟
والدتي رحمة الله عليها كانت شغوفة بالرسم وأعتبرها المعلمة الأولى، ثم إنني نشأت في بيت مثقف وكانت القراءة بشكل عام جزءاً من روتين حياتنا منذ الطفولة في كل المجالات، وخاصة الأدب، كما توفرت لي في مكتبة المنزل سبل الاطلاع على كتب في تأريخ الفنون، ومطبوعات ومجلات تتضمن لوحات فنية ولقاءات مع فنانين تشكيليين، كنت أتابعها باهتمام كبير، بعدها سافرنا إلى الإسكندرية للبقاء مع أخي الذي التحق بالجامعة هناك لنبقى فيها مدة أربع سنوات وبالرغم من أنني كنت في المرحلة الإعدادية إلا أنها كانت سنوات مهمة في توسيع معارفي بالفنون البصرية، وفي المدرسة وجدت اهتماماً كبيراً من أستاذة الرسم الشابة التي اهتمت بي بوجه خاص وعاملتني كصديقة، وكانت تعطيني أعمالاً فنية أتدرب على نقلها ثم تضع ملاحظاتها، لا زلت حتى اليوم أذكر اسمها، الأستاذة فيروز رعاها الله أينما كانت.
عندما عدنا ثانية إلى اليمن كنت أرسم البورتريهات، وأحاول إجادة النسب والمعايير الواقعية، في هذه الفترة وكنت لا أزال في المدرسة الثانوية أقمت في صنعاء أول معرض شخصي، ولفتت أعمالي انتباه الوسط الثقافي لعدة أسباب، أهمها ندرة وجود فنانات نساء في الحياة الإبداعية حينها، ومستوى الأعمال الذي كان لافتاً مقارنة بصغر سني، بالإضافة إلى ذلك اختياراتي للشخصيات التي رسمتها فقد كانت البورتريهات على سبيل المثال تشمل لوركا وبابلو نيرودا وبرتولد بريخت ومكسيم غوركي وكافكا وأمل دنقل وصلاح عبدالصبور وعزيز نسين وآخرين، وهو ما أعطى تصوراً بتأثري بالفكر اليساري واهتماماتي الأدبية.
- الدراسة في أكاديمية الفنون.. ماذا أفادتك؟
الأكاديمية كانت مهمة جداً لأنها نسفت الخبرات المتواضعة التي شكلتها ببحث ذاتي وأعادت بنائي من خلال تأسيس أكاديمي منظم ومنهجي، وتمكنت من إبراز موهبتي بناء على أداءات أكثر ثقة من السابق، وقد ترددت في مرحلة الدكتوراه على قسم الجرافيك وحرصت على متابعة بعض الدورات التي من شأنها تطوير أدواتي، كما أفدت كثيراً من الدراسة النظرية في قسم تاريخ ونظريات الفن وهو ما أهلني للعودة إلى العمل الأكاديمي في قسم الفلسفة في جامعة صنعاء حيث اعتبرت مواد الدراسة النظرية مكملة لدراستي الفلسفة في صنعاء لمدة ثلاث سنوات، وذلك قبل أن أسافر إلى موسكو للالتحاق بأكاديمية الفنون.
- ما الأبعاد التي أضافتها دراسة الفلسفة وعلم الجمال على لوحاتك؟
أعتبر نفسي محظوظة كفنانة تشكيلية أن حظيت بفرصة لدراسة الفلسفة والنظريات الجمالية وهي مسألة لم أكن رتبتها عن وعي، فقد قلقت والدتي في البدء من أن أسافر بعيداً عنها للتخصص في الفنون، ولشدة تعلقي بها قررت البقاء والالتحاق بقسم الفلسفة في صنعاء، ثم صارت مشاركاتي على نطاق واسع ومتكرر في المعارض التشكيلية داخل وخارج اليمن وهو ما أشعرني بضرورة الدراسة الأكاديمية للفن، لأني أشارك في معارض يتواجد فيها كبار الفنانين، سواء في اليمن أو الدول العربية، وذلك ظل يقلقني، فقررت السفر وامتلكت الشجاعة لإقناع والدتي، وهو ما حدث إذ سافرت والتحقت بأكاديمية الدولة للفنون، لكن بقيت دراستي للفلسفة شديدة الأهمية في أثناء تواجدي في الأكاديمية ذلك أنني كنت أتفوق على زملائي في المواد النظرية التي تخضع غالبيتها للطروحات الفلسفية والجمالية، ثم أثرت في اشتغالي الفني وفي مضامين أعمالي بوجه خاص وهذا هو الأهم، لأن الفنان في طرح المضامين يحتاج إلى الرؤية الفلسفية، وكلما اقترب المضمون من الفكرة الفلسفية كلما اكتسب العمل الفني ثراء وعمقاً، ونحن في إنتاج اللوحة لا نستطيع الذهاب بعيداً عن الفلسفة، وإلا جاءت أفكار ومضامين العمل الفني بالغة البساطة وربما التسطيح في بعض الأحيان. الإلمام بالفكر الفلسفي يخلق للفنان مسارات متعددة وعميقة للمضامين، ويساهم في امتلاك الفنان آفاقاً أوسع للتجديد والانتقال في كل مرة بالتجربة إلى مستوى مختلف، فالتكرار والجمود ينجمان عن تدني الوعي وفقر المخيلة.
- كيف يمكن أن تسيطري على شخصية «الأكاديمية» داخلك لمصلحة الفن حين ترسمين؟
أولاً لابد من الاعتراف بأن الاشتغال بالفن أفادني كثيراً في عملي الأكاديمي، حيث منحني بعض المرونة والتخلص من الصورة الصارمة الجافة للأستاذ الأكاديمي.
أما عن حضور الأكاديمي في عالمي الداخلي أثناء الاشتغال على النص البصري فهذا لا يحدث (على الأقل في حدود معرفتي بنفسي) فأنا أمام اللوحة أفقد علاقتي بالخارج، وأنسى ما يمكن أن نسميه بالحضور المعقلن والموجه للمخزون المعرفي أو أي خبرة أكاديمية. على العكس تماماً أشتغل على اللوحة بإحساسي الداخلي وبشيء من الحدسية، أرسم ما أشعر به في تلك اللحظة حتى دون تخطيطات (إسكتشات) مسبقة وأنتظر تخلق الشكل لحظة بلحظة، ويحدث في بعض الأحيان أن يتنامى الشكل في هيئة مغايرة للتكوين المبدئي الذي تخيلته.
من جهة أخرى فإن الحرية شرط رئيسي في إنتاج اللوحة، ولذلك تنتفي الضوابط الأكاديمية أو أية ضوابط، ولا أعتقد بأن الفنان الذي يستحضر بداخله الأكاديمي، قادر على إنجاز عمل فني يتسم بالتلقائية والإبداعية. في حالة حضور وطغيان الأكاديمي على الروح المبدعة يمكن أن تتمخض التجربة عن منجز جاف خال من العاطفة يتسم بالصرامة والآلية وهو ما يغلب على أعمال بعض التشكيليين المتمسكين بالتقاليد والقوانين الأكاديمية سواء في الأداء أو في جمود الوعي.
- أقمت عدداً كبيراً من المعارض ورسمت عشرات اللوحات.. هذه الغزارة في الإنتاج ما منبعها؟
الشغف في الدرجة الأولى، وبالنسبة لي الإنتاج الإبداعي يجعل للحياة معنى، ولست أبالغ إذا قلت إنني أعتبر ممارسة الفن جزءاً من وجودي خاصة عندما تخذلني اللغة والنص المكتوب في طرح رؤيتي، إلا أن ذلك لا يعني احتياجي بين كل تجربة وأخرى إلى فترة راحة أو وقفة لأنفصل عن سياقات التجربة المنجزة، وعندما أجدني قد ابتعدت مسافة كافية، تبدأ مرحلة التهيئة لمشروع بصري جديد، وهي عملية ليست هينة، يتخللها البحث والقراءات المتنوعة، من الشعر إلى الرواية إلى التأريخ وفلسفة إلى النقد، إضافة إلى التأمل ومشاهدة المعارض والتجارب الحاصلة في العالم ومتابعة أعمال سينمائية جيدة والإصغاء للموسيقى، هذه جميعها أعتبرها محفزات لولادة رؤية جديدة كما أن الغرض من كل هذا هو الوصول إلى حالة من التشبع، قد يشكل محرضاً لتفعيل عملية التخييل وتصور الشكل الفني، وأهم خطوة تلي ذلك هي القبض على اللحظة الملهمة، عندما تتوفر هذه اللحظة أدخل في سياق التجربة التالية.
في السنوات الأخيرة وتحت تأثير الحرب كثفت من اشتغالاتي، ربما لأني شعرت كم أن الموت قريب، وكيف لا تحتاج حياة الكائن سوى إلى ثوان لكي تتلاشى وكأنه لم يكن، الحرب جعلتني أفكر بكثير من الأشياء التي لم أنجزها بعد في نصي.
- بخلاف عرضك لوحاتك في عدد من مدن العالم فإنك مهتمة بمشاركة لوحاتك على مواقع التواصل الاجتماعي.. ما الاختلاف بين رواد القاعات ورواد السوشيال ميديا في تلقي الفن التشكيلي؟
العمل الفني في صالات العرض، سواء في الدول المتقدمة أو النامية، الأمر سيان، يستقطب النخب المثقفة التي اعتادت ارتياد المعارض، أما مشاركة الأعمال على مواقع التواصل الاجتماعي فيتيح لشرائح مختلفة من الجمهور الاطلاع عليها، وهو فضاء حر لا تتحكم فيه قوانين مؤسسات العرض وتفضيلاتها وتدخلاتها في توجيه مسارات الفن، حتى أنها تقصي الفنانين الذين لا ينصاعون لاشتراطاتها من خارطة عروضها ومن ناحية أخرى تتدخل العلاقات الشخصية والمصالح المتبادلة والكثير من الحسابات في اختيار الفنانين في العروض الدولية والملتقيات، لذلك أحرص أن لا تبقى أعمالي حبيسة المعارض فقط، وأهتم بأن تصل إلى عدد أكبر من الناس، وبالفعل هناك فارق بين جمهور المعارض، ومرتادي مواقع التواصل، فالأول، نوعاً ما، جمهور نخبوي، أما الثاني فينتمي إلى مستويات ثقافية مختلفة، وقد تقع عين أحدهم بالمصادفة على أحد أعمالي، لكني ألحظ أن كثيرين يبدؤون هذه البداية، ثم يتحولون إلى متلقين ومتابعين لما أكتبه أيضاً، وذلك أمر مبشر، فسهولة الوصول إلى مشاهدة اللوحات عبر الفضاء الافتراضي بالنسبة لأشخاص لم يكونوا مهتمين بالفنون البصرية، وتحولهم مع الوقت إلى جمهور متابع، وحريص على فهم اللوحات، يطرح مواقع التواصل كأداة أكثر شعبية وانتشاراً في التعريف بالفن وبالفنانين.
- وكيف تستقبلين ردود الأفعال من الجمهور العادي.. هل تسعدك أكثر من آراء المتخصصين والمثقفين؟
تسعدني كثيراً ردود أفعالهم وتجاوبهم وفضولهم تجاه العمل حيث لا يجب أن نتعالى على وعي الناس، بل إن المطلوب أن نوسع دائرة التلقي بجذب الجمهور العادي إلى أجواء النصوص، لكن كفنانة أحاول أن أفرق بين مسألتين، أولاهما إقبال الناس في المواقع على أعمالي وفضولهم تجاهها، وبين قضية تقييمها فنياً، فعبارات الاستحسان والإعجاب قد تعني أن المشاهد من خارج النخب المتخصصة أو المثقفة، قد وجد في العمل الفني شيئاً يشده إليه وهذه بلا شك تسعد أي فنان، غير أن الكثرة من عبارات الاستحسان أو المديح في عطاء الفنان لا تعني بالضرورة تقييماً ذي طابع نقدي يمكن الاحتكام إليه، فالقراءة النقدية موضوع آخر كلية، كما أنه ينبغي على الفنان أن يظل منتبهاً إلى أن الإقبال الكبير على العمل لا يعني جودة النص بالضرورة، والدليل على ذلك أن أكثر الأعمال الواقعية ذات المستوى المتواضع، أو اللوحات ذات الطابع التجاري والتزييني والتي لا تعلو عن مستوى ما نسميها بـ«لوحات الأرصفة» تحصد في الغالب أكبر كم من عبارات الإعجاب، وتحظى بانبهار الجمهور، ومشاهدات بالآلاف.
ومع ذلك لا يزال يسعدني أن يتعرَّف بائع في دكان صغير عليَّ، وأن يذكر لي لوحات شاهدها في مقابلة أو مقالة، وأن يناديني بالرسامة صاحب محل السمك، فأن تصل إلى العامة في بلد يجهل الفنون المعاصرة أصعب من أن تعرفك الخاصة من المثقفين.
- رسمت موضوعات تتعلق بقهر الإنسان وحصار الفرد في المجتمعات خاصة النساء.. إلى أي حد تعتبرين أنك عبرت عما تريدينه؟
لا يزال هناك الكثير مما يجب أن يُقال، في هذه القضايا، فنحن مجتمعات تتغذى على القهر والقمع، وانتهاك الحقوق تحت مسميات متعددة.
لقد حاولت قدر ما استطعت أن أتمثل هذه القضايا في عدد من المعارض، لكنها تظل موضوعاً خصباً ومتناسلاً، جديراً بالمزيد من المعالجات، ولا أدري إن كنت سأنجح في ظل سيطرة الميليشيات ذات المرجعية الدينية.
- هل تعبرين عن نفسك بالرسم كما تشائين في مجتمع عربي أم أن هناك رقيباً ذاتياً قد يحد من حركتك أحياناً؟
لا أنكر وجود رقيب ضمني حاضر بقوة في أعماقي، وربما هذا حال كثير من المشتغلين العرب في مجالات الإبداع، والإشكالية تكاد تكون أشد حدة لدى النساء ولذلك في أثناء إنجاز كل تجربة أشعر بأنني أسعى للتوفيق بين ما أريد التعبير عنه وبين المحاذير الخارجية التي تحولت مع الوقت إلى داخلية، أتفادى حدة الطرح والصدامية، وأنجح أحياناً بينما أخفق في أحيان أخرى حيث أجدني وقد تغلبت علي نزعة التمرد على سلطة الرقيب الضمني، وهذا بدا جلياً في معرض (حصارات) الذي اتخذ طابعاً جريئاً شكلاً ومضموناً، إنها معادلة شديدة الصعوبة أن تكون صادقاً في أعمالك لكنك تتجنب غضب المجتمع أو السلطة، وغالباً أتمسك بالتعبير الصادق حتى مع الخسارات المحتملة.
- لماذا سميت مرسمك «كون» وما الذي حققته من خلال النشاط المؤسسي الذي أقمته بهذا المرسم.. هل استطعت تقديم مواهب شابة في الفن التشكيلي إلى الحياة الثقافية؟
في الحقيقة مسمى «كون» من اختيار أختي، وقد راق لي لأنه يحمل دلالات كثيرة متعلقة بعالم الفنان الذي لا يتحدد بالجغرافيا أو الزمان والمكان، ولأن المحترف يشكل كوناً من نوع خاص، هو كون مجازي، أعجبت بالكلمة الواحدة ذات المعاني الواسعة، والتي يمكن قراءتها ضمن مستويات رمزية عديدة.
مرسم كون، هو جزء من مؤسسة كون لتنمية الثقافة والذائقة البصرية، أضفت النشاط المؤسسي لكي أتمكن من إقامة مناشط أتصور أنها تخدم الحركة التشكيلية والثقافية، فعلى سبيل المثال منذ العام 2009 إلى العام 2014 وهو عام اندلاع الحرب في اليمن، أقمنا العديد من ورش العمل التشكيلية وحلقات النقاش والمحاضرات التي قدمت فيها تجارب فنانين محليين وآخرين عرب زاروا اليمن في تلك السنوات، قدمنا أكثر من عرض لتجارب تشكيلية شابة، إضافة إلى أن يوم الخميس كان يوماً مفتوحاً، نستقبل فيه كل الراغبين في زيارة المرسم والمؤسسة، وقد شكل هذا اليوم ملتقى ثقافياً أسبوعياً جمع محبي الفنون والصحفيين والكتاب والشعراء، والتشكيليين، وكثيراً ما تحول اللقاء إلى صباحية شعرية أو قصصية وهو ما سمح لنا أن نتجاوز التشكيل إلى مجالات إبداعية أخرى.
وعن السؤال حول تمكني من تقديم مواهب شابة فقد ساهمت قدر استطاعتي وبجهد شخصي في دعم الفنانات والفنانين الشباب، ومتابعة تطور تجاربهم وتقديمهم إلى الحياة الثقافية عبر مساعدتهم في المشاركة بأعمالهم في المعارض، أو بالكتابة عنهم وتعريف الوسط اليمني بهم، بعضهم تعرفت عليهم أطفالاً موهوبين، وامتدت علاقتي بهم إلى أن صاروا شباباً يحترفون الفن.
- لماذا توقفت عن كتابة القصة القصيرة؟
تصور.. أنا لا أجد إجابة محددة، لا أدري كيف ابتعدتُ عن السرد، وبالرغم من أنني قُدمت للحركة الثقافية في بداياتي ككاتبة قصة، ونٌشرت أعمالي في مختلف الإصدارات الأدبية والصحفية، إلا أن التشكيل أخذني بعيداً، وأعتقد أن العمل في إنتاج اللوحات يستغرق كل وقتي وتفكيري، فلا يتبقى لديَّ فائض من الوقت أستثمره في اشتغالات ثانية، وإن كنت أستثني الكتابة النقدية التي أفرد لها جزءاً من برنامجي اليومي، لأنها من صميم عملي، وهنا يمكنني أن أعزو ابتعادي عن السرد القصصي، في جزء منه إلى ممارسة الكتابة النقدية، فهذه الأخيرة استنفذت ربما طاقة الكتابة السردية، وهذا ليس سوى تبرير محتمل.