كان على الإنسانية أن تواجه نفسها في اختبارٍ دموي رهيب، جرى على مراحل في أسبوع واحد. ثلاثة حوادث عدوانية دموية توزعت على قارتي آسيا وأوروبا بالعدل والقسطاس، لكن العدل غاب عن وسائل الإعلام، وعلى من تؤثر فيهم هذه الوسائل كان على الإنسانية أن تواجه نفسها في اختبارٍ دموي رهيب، جرى على مراحل في أسبوع واحد. ثلاثة حوادث عدوانية دموية توزعت على قارتي آسيا وأوروبا بالعدل والقسطاس، لكن العدل غاب عن وسائل الإعلام، وعلى من تؤثر فيهم هذه الوسائل بشكل مباشر أو غير مباشر، فتفاوتت قذمة الدم هنا وهناك، على حسب قيمة الجغرافيا وما توحي به من قيمةٍ سياسيةٍ لكل بلد وقع فيه أيٌ من هذه الحوادث المؤسفة!
تقول الأخبار المعلنة، حتى الآن، إن الفاعل واحد، وهو تنظيم داعش المجرم، طالما أنه أعلن، بعد كل عملية من الثلاث، مسؤوليته عنها، بلغة التفاخر والوعيد بالمزيد. أما المفعول به، فهو الإنسان البريء في بلجيكا والعراق وباكستان.
ففي الثاني والعشرين من مارس/ آذار الجاري، كانت بروكسل على موعد أسود مع سلسلة تفجيرات نفذت متزامنة في مرافق في المدينة، وبلغت ذروتها في التفجير المدوي الذي أقدم عليه انتحاري، أو أكثر، وخلّف وراءه بضعة وثلاثين قتيلاً، وعدداً أكبر من الجرحى والمصابين. ولم تكد تمضي أيام قليلة، حتى أعلن “داعش” عن مسؤوليته عن تفجير انتحاري في ملعب لكرة القدم، استضاف مباراة لمجموعة من الفتيان في بغداد، وكانت حصيلة الموت بضعة وعشرين قتيلاً وضعف عددهم من الجرحى. وقبل أن ينتهي الأسبوع صدر إعلان ثالث لتنظيم داعش عن عمليةٍ عدوانيةٍ جديدةٍ للتنظيم، وسط مدينة لاهور الباكستانية، ذهب ضحيتها ما يزيد على سبعين قتيلاً، وأضعافهم من الجرحى والمصابين، أغلبهم أطفال كانوا يلعبون في حديقةٍ عامةٍ برفقة أهاليهم!
لم يعنِ ارتفاع عدد قتلى حادثة لاهور والمصابين فيها أن الاهتمام العالمي بها، على الصعيد السياسي أو الإعلامي أو الإنساني، كان أكثر من الاهتمام بما سبقها من عملياتٍ مشابهةٍ في الشكل والمضمون، وإنْ بعدد أقل من الضحايا، على الرغم من أن الفاعل كان واحداً! بقيت تفجيرات بروكسل في مقدمة الاهتمام الإعلامي الذي انعكس على معظم الناس في كل الكرة الأرضية، بلا أي سببٍ سياسيٍّ أو إنساني مفهوم أو مقبول.
في كل النقاشات التي أشعلها بعض المستغربين من ذلك التفاوت في الاهتمام بتفجيرات بروكسل وبغداد ولاهور كان كثيرون يشيرون إلى أن بلادنا العربية والإسلامية تعتبر في السنوات الأخيرة “حواضن للإرهاب”، وفقا لتعبيرهم. وبالتالي، كل الحوادث التي عانت منها، في هذا السياق، إنما هي نتيجة حتمية لهذا الوضع، وكأنهم يريدون القول إنها “تستاهل” ما يجري لها، فكل هؤلاء الانتحاريين ينتمون لها، جينياً ودينياً، حتى وإن حمل بعضهم جنسياتٍ غربيةٍ، أو درس في مدارس أجنبية. ولهذا، هي لا تستحق التعاطف الحقيقي الفاعل، والذي حظيت به بروكسل في مصابها!
لا أفهم كيف يمكن أن يهندس المرء عواطفه الإنسانية تجاه قتلى أبرياء، وفقا للجغرافيا التي جرى فيها قتلهم على يد مجرم واحد. ولا أفهم لماذا يتحتم عليهم أن يتحمّلوا سياساتٍ معينةً لحكومات البلدان التي وجدوا فيها مواطنين أو سيّاحاً لحظة قتلهم، فيأتي حجم التعاطف معهم كضحايا وفقا لتلك السياسات. وأخيراً، لا أفهم ، في الحوادث الثلاثة، أخيراً، في سلسلة التفجيرات العالمية التي نسبها تنظيم داعش لنفسه، كيف اعتبرت بلادنا العربية والإسلامية “حواضن للإرهاب” تستحق ما يجري لها على يد منتجات “الإرهاب”، فيما اعتبرت بلجيكا ضحيةً وحسب، باعتبارها تنتمي للعالم الغربي الذي تنظر إليه حركات “الإرهاب” في صيغتها الدينية المتأسلمة هدفاً وحسب.
هل ذاكرة العالم مرهقةٌ إلى هذا الحد، لتنسى التاريخ الحقيقي لما يسمى الإرهاب على مستوى الدول والحكومات والشعوب؟ هل أكل الزهايمر هذه الذاكرة الجمعية، ليغيب عنها تاريخ دموي رهيب، بدأ باحتلالٍ شاملٍ لمعظم البلاد العربية والإسلامية، وينتهي بكيانٍ صهيونيٍّ مزروعٍ في قلب هذه البلاد، على شكل دولة تسمى إسرائيل؟
يحتّم التفكير العميق بجذور ما يسمى الإرهاب على الجميع إعادة النظر بتعريفٍ جديدٍ للدول التي ينظر إليها حواضن للإرهاب، لعل في هذا التفكير ما يعيد إلى الإنسانية شيئاً من العدالة، في نظرتها إلى الدم البريء وهو يسيل في بروكسل أو بغداد أو لاهور أو فلسطين أو غيرها.
نقلا عن العربي الجديد