الدولة المدنية ومقاصد التشريع (2)
في نقد المقاصد الخمسة/الكليات الخمس للتشريع:
اشتهر في الدراسات المقاصدية أن مقاصد الشريعة أو كلياتها خمسة، وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وقد بلغت من الشهرة عند المتأخرين حتى صار البعض يعتقد الإجماع عليها ويعتبر استقراءها محكم لا إشكال فيه! لكن من يقرأ في تاريخ الدراسات المقاصدية وحجم الاختلاف فيها سيخرج بنتيجة أخرى.
أثناء اطلاعي على كثير من الكتابات المقاصدية قديمها وحديثها كانت تشغلني بعض الأسئلة كثيرة حول هذه المقاصد أو الكليات الخمس، كنت أرى أن هناك اختلالاً ما قد أخل باتساق تلك المنظومة، أو أنها لم تعبر تماماً عن مقاصد التشريع، إلى أن بدأت ملامح إجابات تلك الأسئلة تتضح أمامي من خلال تتبع وبحث هذه المسألة، فكانت صورة المقاصد أكثر اتساقاً واقتراباً من النص القرآني.
كان أول الأسئلة حول هذه المقاصد الخمسة/الكليات الخمس هو سؤال منطقي يقول: كيف يأتي الدين لحفظ الدين؟! كيف يأتي الدين لحفظ نفسه؟ أوليس الدين جاء لأجل الإنسان “ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى” أي أن القرآن نزل من أجل سعادة الإنسان وعدم شقائه، فكيف نقول إنه جاء لحفظ الدين؟ لابد أن نستخدم مصطلحاً آخر مرتبط بالإنسان إذا كنا نريد كل نواحي الإنسان روحه وبدنه، دنياه وآخرته، أما استخدام حفظ الدين فغير منطقي، ومدخل الوصول إليه لم يكن مؤسساً على دليل قوي.
للإجابة على هذا السؤال ذهبت في تتبع ما قاله الأصوليون في هذه المقاصد ابتداء بأول من أشار إلى الكليات وهو الإمام الجويني (ت 478هـ) ثم تلميذه الإمام الغزالي (ت 505هـ)، وحين قرأت ما كتبه كلاهما اتضحت الصورة، أما إمام المقاصد الأول أبو المعالي الجويني فلم يذكر مقصد حفظ الدين ضمن المقاصد والكليات في كتابه البرهان، وإنما ذكر ثلاث كليات هي: النفس والنسل والمال، يقول الجويني: “وبالجملة، الدم معصوم بالقصاص… والفروج معصومة بالحدود، والأموال معصومة عن السراق بالقطع…” (1). ثم وافقه الغزالي في كتابه “شفاء الغليل” ولم يذكر حفظ الدين ولكنه أضاف حفظ العقل فقال: “فجعل القتل سببا لإيجاب القصاص، لمعنى معقول مناسب، وهو: حفظ النفوس والأرواح المقصود بقاؤها في الشرع، وعرف كونها مقصودة على القطع. وحرم الشرع شرب الخمر: لأنه يزيل العقل؛ وبقاء العقل مقصود للشرع، لأنه آلة الفهم وحامل الأمانة، ومحل الخطاب والتكليف. والبضع مقصود الحفظ، لأن في التزاحم عليه اختلاط الأنساب، وتلطيخ الفراش، وانقطاع التعهد عن الأولاد: لاستبهام الآباء: وفيه التوثب على الفروج بالتشهي [والتغلب] وهي مجلبة الفساد والتقاتل. والأموال مقصودة بالحفظ على ملاكها؛ عرف ذلك بالمنع من التعدي على حق الغير، وإيجاب الضمان، ومعاقبة السارق بالقطع”(2). ثم زادها الغزالي في “المستصفى” خمس كليات بإضافة حفظ الدين، فقال: “ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة”( 3). ثم سلك الأصوليون من بعدهما مسلكين: فريق ذكر حفظ الدين ضمن مقاصد الشريعة وفريق لم يذكره.
من خلال رصد ما قاله المتأخرون بعد الجويني والغزالي نستطيع القول إن لدينا في حصر مقاصد الشريعة مسلكان: يمكن أن نسمي المسلك الأول بمسلك الجويني ومن جاء بعده ممن زاده تفصيلا وأهمهم العز بن عبدالسلام (ت 660هـ)، والمسلك الثاني مسلك الغزالي ومن جاء بعده ممن زاده تفصيلا وأهمهم الشاطبي، ويمكن أيضا أن تكون التسمية باسم شارحي هذه المقاصد ومستقرئي أحكامها، فيكون لدينا باعتبار هذين المسلكين مدرستين في المقاصد، الأولى: مدرسة العز بن عبدالسلام وهذه تعود للجويني، والثانية: مدرسة الشاطبي (ت 790هـ) وهذه تعود للغزالي.
ولأن المسلك الثاني (الغزالي/ الشاطبي) صار ظاهرًا ومشهورًا والمسلك الأول صار مطمورًا وغير معروف، وربما لو تحدث به أحدهم لوجدوا في كلامه غرابة، فإني في هذا المبحث سأقوم بتتبع المسلك الأول (الجويني/ العز بن عبدالسلام) عند الأصوليين، ومن أشهر من قال به، ثم أبين أهمية هذا المسلك في تجديد مقاصد الشريعة ومدى اتساقه أكثر من الآخر، وبهذا نجيب على ذلك السؤال الذي وضعته عن عد منطقية ما وضعوه من مقصد حفظ الدين.
أهم عبارة تشير إلى وجود هذين المسلكين هي عبارة القرافي عند الكليات الخمس والاختلاف في عددها حيث يقول: “واختلف العلماء في عددها -أي الكليات-، فبعضهم يقول الأديان عوض الأعراض، وبعضهم يذكر الأعراض ولا يذكر الأديان”(4).
إذن نحن –بحسب القرافي- أمام مسلكين في تصنيف مقصد حفظ الدين، مسلك يذكره ومسلك يذكر العرض بدلا عنه(5).
يقول الريسوني: “إن إمام الحرمين رحمه الله، هو صاحب الفضل والسبق في التقسيم الثلاثي لمقاصد الشارع “الضروريات – الحاجايات – التحسينيات”، وهو التقسيم الذي سيصبح من أسس الكلام في المقاصد. كما أنه صاحب فضل وسبق في الإشارة إلى الضروريات الكبرى في الشريعة، وهي التي سيتم حصرها فيما بعد تحت اسم “الضروريات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال” ( 6). وقد ذكر الجويني تلك المقاصد عند حديثه عن ما يعلل وما لا يعلل من أحكام الشرع، وذكر أن العبادات مما لا يعلل، فلا “لا يتعلق بها أغراض دفعية ولا نفعية”، أي لا يظهر فيها درء مفسدة ولا جلب مصلحة”(7 )، ثم ذكر أن هذه العبادات يمكن تعليلها تعليلًا إجماليًّا، وهو أنها تمرن العباد على الانقياد لله تعالى، وتجديد العهد بذكره، مما ينتج النهي عن الفحشاء والمنكر، ويخفف من المغالاة في اتباع مطالب الدنيا، ويذكر بالاستعداد للآخرة. قال: “فهذه أمور كلية، لا ننكر على الجملة أنها غرض الشارع في التعبد بالعبادات البدنية، وقد أشعر بذلك نصوص من القرآن العظيم في مثل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 7، 8. فلم يبق إذن، إلا بعض أحكامها التفصيلية، مما يعسر تعليله ويتعذر القياس عليه، كهيئات الصلاة. وأعداد ركعاتها، وكتحديد شهر الصوم ووقته ( 8).
أما ما عدا العبادات مما يعلل فقسمه لثلاثة أقسام:
– القسم الأول: ما يتعلق بالضرورات،
– القسم الثاني: ما يتعلق بالحاجة العامة، ولا ينتهي إلى حد الضرورة.
– القسم الثالث: ما ليس ضروريا ولا حاجيا حاجة عامة. وإنما هو من قبيل التحلي بالكرامات، والتخلي عن نقائضها( 9).
أما إشارته لكليات النفس والنسل والمال، فقد ذكرها بقوله: “فالشريعة متضمنها: مأمور به، ومنهي عنه، ومباح. فأما المأمور به: فمعظمه العبادات وأما المنهيات: فأثبت الشرع في الموبقات منها زواجر، وبالجملة: الدم معصوم بالقصاص، والفروج معصومة بالحدود، والأموال معصومة عن السراق بالقطع”(10 ).
كان هذا حديثًا سريعا عن الجويني ومسلكه في المقاصد، أما مسلك تلميذه الغزالي ففي بدايته كان موافقا لأستاذه الجويني في الكليات مع زيادة حفظ العقل، يقول الغزالي في شفاء الغليل ” ثم الشيء ينبغي أن يكون مقصودا للشارع، حتى تكون رعايته مناسبة في أقيسة الشرع. فقد علم على القطع أن حفظ النفس والعقل والبضع والمال، مقصود في الشرع. فجعل القتل سببا لإيجاب القصاص، لمعنى معقول مناسب، وهو: حفظ النفوس والأرواح المقصود بقاؤها في الشرع، وعرف كونها مقصودة على القطع. وحرم الشرع شرب الخمر: لأنه يزيل العقل؛ وبقاء العقل مقصود للشرع، لأنه آلة الفهم وحامل الأمانة، ومحل الخطاب والتكليف. والبضع مقصود الحفظ، لأن في التزاحم عليه اختلاط الأنساب، وتلطيخ الفراش، وانقطاع التعهد عن الأولاد: لاستبهام الآباء: وفيه التوثب على الفروج بالتشهي [والتغلب] وهي مجلبة الفساد والتقاتل. والأموال مقصودة بالحفظ على ملاكها؛ عرف ذلك بالمنع من التعدي على حق الغير، وإيجاب الضمان، ومعاقبة السارق بالقطع”(11 ).
ونلاحظ هنا أن الغزالي يذكر أربعة مقاصد فقط هي النفس والعقل والبضع والمال، بزيادة حفظ العقل عما ذكره الجويني ثم في كتابه المستصفى وهو متأخر عن كتاب ” شفاء الغليل” ذكر ما اشتهر فيما بعد بالمقاصد الخمسة أو الكليات الخمس، حيث يقول: “ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة”( 12).
ثم بنى الشاطبي نظريته المقاصدية في كتابه “الموافقات” على ما ذكره الغزالي للكليات الخمس وفصّل فروعها، والأحكام المتعلقة بها، وبين أقسامها وهي: الضرورية، والحاجية، والتحسينية. ثم اشتهرت بعد ذلك أنها هي مقاصد الشريعة برغم الخلاف في تحديدها وتحديد عددها عند الأصوليين كما ذكرت، وانطمر المسلك الأول الذي ابتدأه الجويني في “البرهان” ووسعه العز بن عبدالسلام في كتابه “قواعد الأحكام” ولم يأخذ حظه كما الشاطبي، رغم أنه أكثر اتساقاً ومعقولية وتفسيرية للأحكام، ثم جاء الطوفي (ت 716هـ) من بعده ووسع في نظرية المصلحة وحجيتها في رسالته “في رعاية المصلحة”.
____ الهوامش
- البرهان في أصول الفقه 2/179.
- شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل ص 160.
- المستصفى ص 174.
- شرح تنقيح الفصول ص 392.
- وبعضهم يجعلها ستةً ” بالأعراض “، ومنهم من يُدْرج الأعراض في النسل. انظر: البحر المحيط للزركشي 7 / 267. قال الشاطبي: ” وإن ألحق بالضروريات حفظ العرض؛ فله في الكتاب أصلٌ شرحَتْه السنة في اللعان والقذف” الموافقات 4/349، وقال ابن عاشور: “وأما عدُّ حفظ العرض في الضروري فليس بصحيح، والصواب أنه من قبيل الحاجي … ونحن لا نلتزم الملازمة بين الضروري وبين ما في تفويته حد” مقاصد الشريعة ص 81.
- نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ص 36.
- نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ص 35.
- انظر البرهان، 2/ 958، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ص 35.
- انظر نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ص 35،34.
- البرهان، 2/ 1151. نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ص 36.
- شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل ص 160.
- المستصفى ص 174.