الحجُّ أداءاتٌ تعبُّدِيَّةٌ جماعِيَّةٌ لِشعائرَ ومناسكَ، هي علاماتٌ ترمزُ بصورةٍ مركَّزةٍ ومُكَثَّفَةٍ إلى وقائِعَ ومواقِفَ ولحظاتٍ فاصلةٍ من تاريخِ الوَحْدَانِيِّةِ. كما تشيرُ للأدوارِ التأسيسيةِ الأولى، التي اضطلع بها أبو الأنبياءِ إبراهيمُ وابْنُه إسماعيلُ وأمُّنا هاجرُ عليهمُ السلامُ، في إرساءِ دعائمِ العقيدةِ وإعادةِ تسكينِ الدعوةِ وِفْقاً لمُرَادِ اللهِ في المكانِ الذي أوْدَع فيهِ سِرَّهُ في أول بيتٍ بُنِيَ للنَّاسِ بمكةَ, حيثُ أسْنَدَ لإبراهيمَ وإسماعيلَ وهاجرَ عليهم السلامْ, مهمةَ سُكْناهُ وعِمَارَتِهِ وتأهيلِهِ ليكونَ مثابة للناس وأمنا، مركزَ الثقل الروحي للأمةِ الإسلاميةِ حتى يرثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها، ضِمْنَ مُخططٍ إلهيٍ ومخاضاتٍ صعبةٍ وقاسيةٍ انتصرَ فيها الإيمان بالخالق وحده، وبلغَ المُكلَّفُونَ ذروةَ التسليمِ، فإذا المكانُ يُفْصِحُ عن خَباياهُ وعطاياهُ، متجاوباً مع حركةِ الروحِ الهاديةِ بتناغمٍ وتوافقٍ مُعْجِزْ..
من قلبِ الصَّفا الصَّلْدِ انْبَجَسَ نبعٌ حَنُونٌ على وقَعِ خُطى الأُمِّ اللهيفَةِ، وتحت قدميْ طِفْلِها إسماعيلْ، الفادِي العظيمِ، وريثِ النبوة، المنذورِ للقيامِ بأعظمِ المهامِ المرتبطةِ بميلادِ البشرية.
وما بين الصفا والمروةِ, تأخذك روحٌ آسرةٌ عذبةٌ, تشعرُ بنداوةٍ مفعمةٍ بشذى الجنان، تُبَلِّلُ القلبَ والجسد.. هي روحُ أمِّنا العظيمةِ هاجَرَ, تسكن المكان الحبيب.. هي ذي وهي تهرول لحظةَ الانقطاعِ والفقدانِ والظمأِ إلى الكَنَفِ والزوجِ, وكلِّ ضروراتِ الحياةِ.. هي ذي تروي عطشَنَا للمعنَى الحقِّ, في كلِّ رشفةِ ماءٍ من العينِ الإلهيةِ الثَّرةِ المُنْبَجِسَةِ من قلبِ الأسرارِ الربانية.
خُطاكِ أيتها الأمُّ الجليلةُ, هرولةٌ أبديةٌ نحوَ الله.. بحثٌ دائمٌ عن الارتواء.. بحثٌ عن النَّبعِ الذي يسكُن أعماقَنا.. أشعُرُ بخطاكِ داخِلَ الروحِ تهمسُ في الجداولِ النائمة.. تهتفُ بالنَّداوةِ المطمُورةِ تحت ركامٍ يُثقِلُ الصدرَ ويحجُبُ الضوء.. أشعُرُ بخطاكِ تُقلّبُ عمراً من اليباسِ والجفافِ والتصحُّر, بحثاً عن النّدى الدَّفين والدَّفْقِ الحبيس.. بحثاً عن زمزمَ الثاوِيةِ خلفَ الضُّلوع..
زمزمُ.. آيةٌ دافقةٌ انبثقتْ من يقينٍ متظافرٍ برحمةِ اللهِ وعنايتِهِ وحفظِهِ.. عينٌ جرتْ من قلبِ التسليم, تروي عطشِ الحِقَبِ والعُصورِ بماءِ اليقين..
هاجَرُ حاضنةُ النورِ, فرادةُ الشخصيةِ وعظمةُ الموقِفِ واليقينُ الكبير, ولحظةُ تسليمٍ استثنائيةٍ، وقد استحالتْ من شعائرِ اللهِ مستوجبةً التعظيمْ..
هاجَرُ مكانةٌ عاليةٌ، وحضورٌ محوريٌ متقدمٌ، ودور مركزيٌ رائد للمرأة في تاريخنا الديني والروحي، يتجاوزُ الفهومَ المجدِبَةَ، والتصوُّراتِ المتخلفة، يتجاوز الشعارات الجوفاء، يصيرُ شعيرةً ورُكناً من أركانِ الحَجّ، “إنّ الصفا والمروةَ من شعائر الله فمن حجَّ البيتَ أو اعتمرَ فلا جُناحَ عليهِ أنْ يَطَّوَّفَ بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكرٌ عليم”.. هي هاجَرُ الأمُّ التي منحت من روحها أمَّ القرى، كي تتظافرَ الأمومةُ الواهبةُ، أمومةُ الإنسانِ والمكان.
ومعَ بعثةِ محمَّدٍ عليه الصلاةُ والسلام، تعلنُ دعوةُ إبراهيمَ وإسماعيلَ عن امتدادها الخاتَمِ: “رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”.. تختتمُ رحلتَها النبوةُ, وتعلِنُ الرسالةُ عن الاكتمال.. تواصلُ مكةَ دورَها الحاضنَ للعقيدة.. يتابِعُ وِجْهَتَهُ النهرُ، مُواصِلاً التدفُّقَ والجريانَ باندفاعٍ ويقينٍ جارفٍ مكتسحٍ، ذاهباً في كل اتجاهٍ،ناشراً الحياة..
هو ذا الحبيبُ المصطفى يلتحفُ بُرْدَتَهُ وأشجانَ الغُربةِ..هو ذا يخوضُ امتحانَ البداياتِ الصعبةِ في مواجهةِ قُرونٍ من الارتدادِ والانحرافِ والجاهليةِ, قرونٍ من الوثنيةِ والكفرِ و الشركِ والضلالاتِ المؤلهة. كانت مكةُ تغرَقُ في الظلامِ الدّامسِ, وكانَتِ الكعبةُ تغصُّ بالأوهامِ وتختنقُ بالأصنامِ..
هو ذا في ظِل الكعبةِ, مستنداً إلى السماء ومواريثِ أبيهِ إبراهيمَ، يستصرِخُهُ خَبَّابٌ, لكن عن أي عذابٍ يحكي خَبَّاب؟..
ما كان جواب المختارِ, إلا قطعاً بالمنشار.. كانت لحظةً فاصلةً, وكان المنشارُ إجابةً قاطعةً تفصلُ بين زمنين:تفصِلُ بين الشكّ واليقين, بين العُتمةِ والنُّور.. بين خيارين:بين أن تكونَ أولا تكونُ.. بين أن تتحمَّلَ كُلْفَةَ الحريةَ كاملةً, أو تبقَى أسيرَ عبودِيَّتِك..
لاحَ الوصفُ الصادِمُ لمثالِ التضحيةِ المستَحَقَّةِ جزءاً من الدرسِ.. قطعاً للضعفِ والوهَنِ.. إعلاءً من شأن الروح وتهوينا من جراحاتِ البَدَن.. درسُ النبُوَّةِ من قديمٍ:خوضُ الامتحان حتى منتهاه, الانقذافُ في قلبِ النارِ, على بردٍ راسخٍ من يقينِ النجاة.
كانوا قلةً من مهمَّشي مكةَ، مدينةَ السطوةِ والجبروت.. أراد بهمُ اللهُ كسرِ النَّسَقِ المهيمنِ في تصوّرِ القوَّةِ والمَنَعَةِ،ونسفِ كلِّ المُواضَعَاتِ القديمةِ المحدِّدَةِ للكينونةِ والمكانة..خبابُ, وصهيبٌ الروميُّ, وبلالٌ, وياسرُ القادمُ من اليمن وزوجه سُميَّةُ، امرأةٌ من موالي بني مخزومٍ, وعمَّارُالابنُ..
تتكررُ صورةُ الأسرةِ الإبراهيميةِ في آلِ ياسر.. تبرزُ هاجَرُ بوضوحٍ في شخصيةِ سميةَ، الشهيدةِ الأم، أولى الفاديات في طريق الفجر الوليد.. أيُّ امرأةٍ أنتِ أيتها الأم الحبيبة!!.. أتشبَّثُ بإهابِكِ كلما ارتَجَفَ القلبُ, و سَرَتْ فِيهِ رِعدَةُ جُبن..أرنُو إلى هامَتِكِ العالية, فينبُتُ لي ألفُ جَناحٍ وجناح .