يبدو أنَّ أوتوقراطية حاقدة ذات نزعة توسعية تشعل حرباً على حدود أوروبا قد عالجت الاتحاد الأوروبي من الشعور بالرضا عن الذات بشأن الدفاع عن النفس. فقبل ذلك، أكّدت جائحة كورونا على ضرورة التنسيق بدرجة أعلى في مجالات أخرى. والآن، يتحدّث سياسيو أوروبا عن عهد جديد من التعاون.
سيسجل المؤرخون بالتأكيد عملية غزو روسيا لأوكرانيا باعتبارها لحظة تحول؛ برغم صعوبة معرفة نوعية هذا التحول. وربما كان الاحتفاء بوحدة أوروبا الجديدة تحت الضغط سابقاً لأوانه، فقد تؤدي المتطلّبات المطروحة على الاتحاد إلى تدعيم هذه الوحدة، أو قد تؤدي في النهاية إلى تصدعها.
من الصعب المبالغة في صدمة أوروبا من قسوة روسيا. فمنذ فترة ليست طويلة، كانت المستشارة الألمانية السابقة ميركل التي تحتفي بشراكة اقتصادية جديدة مع موسكو، هي التي وضعت ألمانيا تحت رحمة صادرات الطاقة الروسية. كان الغزو مفاجأة صادمة. وتحرك الاتحاد الأوروبي سريعاً وفق أي معايير إذ اندفع إلى الفعل المباشر، وبوتيرة أسرع مما كان يظن أي شخص تعوّد على سباته في غالب الأحوال.
وافقت الدول الأعضاء بالاتحاد على مجموعة عقوبات غير مسبوقة. وأرسلوا أسلحة إلى أوكرانيا. وتقدّمت السويد وفنلندا بطلب الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهو قرار لم يكن يطرأ على الذهن قبل هذه الحرب. وسارعت الحكومات إلى زيادة إنفاقها على قطاع الدفاع، متعهدة بتقوية التعبئة المشتركة للسلاح، وتحسين التكامل بين أنظمتها. وفجأة، أصبح السياسيون الأوروبيون يعتبرون الدفاع المشترك الفعال ضرورة ملحة، وليس تطلعاً.
الحفاظ على هذه الجهود واستدامتها يتطلّب مع ذلك وحدة سياسية أعمق؛ وهي المنطقة التي عادة ما يتجاوز فيها تطلع الاتحاد الأوروبي قبضته.
اختبار النظام الاقتصادي
ينظر إلى عدوان روسيا منذ البداية بوصفه تهديداً للجميع، يحتاج إلى التضامن. ومع استمرار القتال؛ ستظهر الخلافات المتعلّقة بكيفية إنهاء الحرب. فالعقوبات التي فرضت على روسيا ستسبب زيادة الأضرار المصاحبة في أوروبا. وهذه التكاليف ستؤثر على بعض البلدان بدرجة أعنف من الأخرى، وستختبر بشدة أنظمة الاتحاد الأوروبي السياسية والاقتصادية غير الكاملة.
يجتمع البنك المركزي الأوروبي هذا الأسبوع كي يقرر متى وإلى أي مدى سيرفع أسعار الفائدة. في هذه اللحظة، يستقر سعر الفائدة الأساسي عند سالب 0.5%، مثلما كان على مدى سنوات. وقد تسبّبت أزمات العرض الناتجة عن جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا بارتفاع معدل التضخم في منطقة اليورو إلى 8.1%. ويتوقَّع المستثمرون أن يبدأ البنك المركزي الأوروبي سياسة التقشف النقدي قريباً. وقد لا يمر ذلك بسلاسة.
سجّل معدل التضخم العام رقماً مفزعاً، غير أنَّ نمط معدلات التضخم في مختلف أنحاء منطقة اليوور صادم بالدرجة نفسها. ومنذ بداية العام حتى شهر مايو؛ بلغ معدل التضخم في فرنسا 5.8%؛ وفي ألمانيا 8.7%. وسجل أدنى مستوى له في مالطا عند 5.6% وأعلى مستوى في إستونيا عند 20.1%. وهذه الفوارق تعد مؤشراً على بعد المسافة التي ينبغي أن يقطعها الاتحاد الأوروبي حتى يبلغ حد الاندماج الاقتصادي؛ خاصة عندما يتعلّق الأمر بإمدادات الطاقة. غير أنَّه يطرح كذلك مشكلات سياسية واقتصادية.
الحساسية للتضخم تختلف من مكان لآخر. إنَّ بلوغ معدل التضخم 8.7% يعتبر مرتفعاً في أي مكان في أوروبا؛ لكنَّه معدل مرعب بمعنى الكلمة في ألمانيا المهووسة منذ فترة طويلة بحتمية استقرار الأسعار. هذه المنظورات المتباينة، إلى جانب الفوارق الواسعة في القوى التضخمية والأوضاع الاقتصادية على المستوى الوطني؛ تجعل عمل الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة يبدو سهلاً بالمقارنة مع المركزي الأوروبي. فمن المستحيل بالنسبة للبنك المركزي الأوروبي أن يقر سياسة نقدية بطريقة تناسب جميع الدول الأعضاء بمنطقة اليورو.
هذا ليس كل شيء. ومع ارتفاع أسعار الفائدة؛ ستعود شقوق أخرى لتظهر على السطح. فالدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تختلف في قدراتها المالية. فكيف لها أن تستطيع بسهولة أن تدعم إجراءات البنك المركزي الأوروبي بإدخال تغييرات على موازاناتها. إنَّ بطء معدلات النمو وارتفاع تكاليف الاقتراض سيجدد التساؤلات حول الجدارة الائتمانية لبلدان مثل إيطاليا، التي ارتفع دينها العام إلى 150% من إجمالي الناتج المحلي في العام الماضي (أو ما يقرب من ضعف الرقم في ألمانيا).
تكاليف التكيّف
المطالب الحالية بزيادة الإنفاق العسكري مع استمرار رحى الحرب في الدوران، علاوة على كل أنواع تكاليف التكيّف الناتجة عن كل من الحرب وانتشار جائحة كورونا (مثل تكلفة الإنفاق على البنية الأساسية والرعاية الصحية ودعم الدخل)؛ ستلفت الانتباه إلى من الذي يدفع، ومقابل ماذا؟، وإلى ما يقدّمه الاتحاد الأوروبي للدول الأعضاء وماذا يطلب منها.
أوقفت سنوات انخفاض أسعار الفائدة إلى مستوى سلبي طرح هذه الأسئلة التي تسبّب الانقسام. طوال الوقت، كان التقدّم نحو الهدف المعلن بتقوية الاتحاد وتدعيمه متوقفاً في أفضل الأحوال. كما أنَّ الجهود التي بذلت من أجل بناء الاتحاد المالي الذي يتطلّبه منطقياً الاتحاد النقدي لم تحرز تقدّماً كبيراً. وقد أطلق الاتحاد الأوروبي بعض البرامج المرتبطة بمواجهة جائحة كورونا، غير أنَّ استجابة الدول الأعضاء من الناحية المالية لمواجهة فيروس كوفيد غاب عنها التنظيم والتنسيق في معظمها. واستمرت النزعة الشعبوية المتشككة إزاء الاتحاد الأوروبي في كسب مزيد من الأرض، بالإضافة إلى أنَّ بعض البلدان -أبرزها هنغاريا وبولندا– تبدو مصمّمة على تحدي الرؤية المهيمنة المتعلّقة بغرض أوروبا. وقد تشمل المناقشات المستقبلية شروط عضوية أوكرانيا، وهي دولة فقيرة حتى قبل أن تشرع روسيا في تدميرها.
لذلك؛ فإنَّ نتائج الحرب تدفع بقوة في اتجاهات متناقضة. تفهم أوروبا الآن أنَّ الرابض على حدودها الشرقية ليس صديقا محتملاً وإنما عدو شرس. وهو أمر يتضح باستمرار. لا أحد ينكر أنَّ الاتحاد الأوروبي ينبغي أن يطور نظاماً أمنياً جديداً، ويبذل في سبيل تحقيق ذلك كل ما يتطلبه الأمر. وربما تعتقد أنَّ أي تقدّم من هذا النوع يسير جنباً إلى جنب مع شعور عميق بالانتماء الأوروبي. غير أنَّ هذا المشروع الجديد ينبغي أن يتعامل مع ضغوط اقتصادية تتصاعد بسرعة، واقتصادات أشد بعداً عن التكامل والاندماج، وترتيبات وشروط مالية فاشلة وغير فعالة، ودستور بال ورث، وقيم سياسية متباينة، فضلاً عن عدد كبير من المواطنين غير المقتنعين بالاتحاد.
اجتاز الاتحاد الأوروبي اختبارات شبيهة بهذا الاختبار من قبل. وفي الواقع، غالباً ما يعتقد أصحاب رؤية الاتحاد أنَّ مسار الانتقال من الأزمة إلى توثيق الاتحاد هو الطريقة الأمثل في تحقيق التقدّم. دعنا نقول فقط إنَّ النجاح غير مضمون.
مقال نقلا عن Bloomberg Media
وعن “الشرق للأخبار”