لهذا اخترت الإسلام
أسئلة كثيرة تنتشر في وسائل التواصل عن الدين بهدف نقضه والحكم بزيفه، إنها أسئلة لا تضع القارئ أو المتابع في حالة توازن بين الأسئلة المقابلة التي يفترض أنها تطرح على النظريات المقابلة، وإنما تغرقه بأسئلة ذات اتجاه واحد، فيخرج المتابع بعدها إلى نتائج وأحكام مستعجلة في قضايا كان ينبغي أن تأخذ حجماً أكبر من التفكير والتأمل.. إشكالٌ آخر يشبه سابقه في الخفة، وهو طرح مقدمة صحيحة ثم القفز إلى نتيجة ليس لها ارتباط بتلك المقدمة، أسلوب خفيف صار ظاهرة عند ما يسمى بالإلحاد الجديد، وفي هذا المقال سأقف عند واحدة من تلك الأفكار على أن تتبعها مقالات أخرى حول جوانب مختلفة من هذه الظاهرة التي عمقت التفكير السطحي في حين أنها تزعم أنها خرجت من الدين بتفكيرها العميق!!
يقول أحدهم: هناك أديان كثيرة وكل واحدة تدعي أنها على الحق وغيرها على الباطل، وهذا دليل كاف لزيفها ولكذبها!!
قبل نقاش تلك الفكرة دعني أمر بك على بعض المقدمات..
نحن بحاجة لأن يكون لدينا تصور معرفي للوجود، الكون والحياة والإنسان، وتصور أخلاقي لعالم الشهادة، فإما أن يتملك الفرد ذلك التصور فيكون ذلك دينه، أو أن لا يمتلكه فيكون عدمياً، وفي الثانية سيكون كل كلام له وكل رأي له متناقض مع رؤيته العدمية تلك، لأن كل شيء سيقوله أو يفعله سيكون مناقضاً للعدمية، إذن فلا خيار إلا أن يملك ذلك التصور..
ذلك التصور هو دين بالنسبة له، وبالتالي فهو أيضاً رقم إضافي للأديان التي استنكرتها، وتصوره الذي يدين به إما أن يكون من اجتهاده أو من اجتهاد غيره أو خليطاً من هذا وذاك، والخيار الأول نادر ولا يكون إلا عند المفكرين والفلاسفة، وبالتالي فهو مقلد مثله مثل المتدين التقليدي، فكلاكما مقلد، والفارق أن تقليد المتدين يزيد عنه بطقوس عبادية تمنحه إرادة أقوى، وتزكية لروحه لا يجدها في غير تلك الطقوس، والمفاضلة بين طقوس الأديان له حديث آخر، كما أن يزيد أيضاً بامتناعه عن بعض الطعام وبعض الشراب تعبداً.. بينما هو يستمتع بمتع الحياة الروحية والجسدية بشكل أتم من المقلد الجديد..
إن المنطق يقول إنه إذا تزاحمت الأديان والفلسفات أمامك، فهذا لا يعني بطلانها حتماً، وإنما قد يكون أحدها حقاً وما عداه باطل، وهذا ليس حكماً إقصائياً لأنه لا يبني عليه حرباً وعداوة في الموقف الأخلاقي تجاه المخالف.
في المقارنة بين الأديان كنت قد وضعت لنفسي معياراً معرفياً وآخر أخلاقياً للترجيح بينها، أما الأول فإن أكثر التصورات المعرفية تجريداً وانسجاماً وأكثرها تفسيراً للوجود (الغيب/الشهادة) ستكون هي الأقرب للقبول، وأما الثاني فأكثر التصورات الأخلاقية خيراً وتوازناً وحكمة في عالم الشهادة ستكون هي الأقرب للقبول.
وبتأمل بين تلك الأديان والفلسفات وجدت أن فكرة “التوحيد” في الدين الإسلامي هي أنضج وأقوى التصورات المعرفية للمطلق بحسب تسمية الفلسفة، أو الله بحسب تسمية الدين، فالتوحيد أكثر تجريداً وكمالاً وجلالاً للإله مما عداه من تصورات عند بقية الأديان، وأما الفلسفات التي ترفض الله فإن تفسيراتها حتماً ستكون ناقصة، لأنها لا ترى إلا بعداً واحداً في الوجود ولا ترى الآخر، سواء كان البعد الآخر للكون/الغيب، أو للإنسان/الروح أو للحياة/الآخرة..
فالله في الإسلام يمتلك كل صفات الكمال المطلق، وفي نفس الوقت ليس كمثله شيء، فلا يشبّه بشيء من مخلوقاته، وهذا التصور هو أكثر التصورات جلالاً بحق الإله، وكل دين جسّد الإله في شيء ما فإنه قد أنقص جلاله وكماله.. ولو أن هذا التصور كان سائداً في الكنيسة الغربية في القرون الماضية لكان حال فلاسفتها مختلفاً تجاه الدين.
وأما تفضيل التصور الأخلاقي في الإسلام فيعود إلى ما اعتمده من قيم رئيسة، إذا تحقق بها الفرد فقد تحقق بأعلى درجات الأخلاقية، وعلى رأس تلك القيم قيمتين رئيسيتين تتفرع منهما كل القيم هما: العدالة، والرحمة، وكلاهما يستندان على قيمة ثالثة هي أساس التكلف عند الإنسان، وهي: الحرية.. وهي حرية مرتبطة بسؤال عن ذلك الاختيار، وليست مفتوحة بلا سؤال، لأننا إن نزعناها عن سؤالها أفقدناها قيمتها، فإذا كان اختيار الشر والخير سيّان فلماذا جاءت الحرية إذن؟ ولذا اضطرت المادية أن تنكر الحرية أحياناً وتجعل اختياراتنا نتيجة مادية بحتة، وإذا ألغينا بحرية الإنسان فلا تسألني عن أي شر يصدر ضده أو منه، لأنه ليس شراً بل نتيجة حتمية لتفاعل مادي سبقه.
لأجل هذا التصور الأخلاقي الخيّر والحكيم والمتوازن، ولأجل التصور المعرفي المجرد اخترت الإسلام يا صديقي على بقية الأديان والفلسفات.