تأملات في طبائع وتحولات التحالفات السياسية للقوى اليمنية
أكثر المظاهر تضليلا في قراءة الصراع الدائر في اليمن، قديماً وحديثاً، هي تلك التي تريد تصويره على أنه صراع بين شمال وجنوب، أو بين زيود وشوافع، أو بين منطقة وأخرى، بينما هو صراع يتمحور حول السلطة والثروة. يمن مونيتور/ خاص/ من محمد صلاح
قد تخطئ محاولتنا لفهم الصراعات والتحالفات في أعالي اليمن، ذات الطبيعة القبلية المتماسكة، إذا نظرنا إليها من زاوية المذهب الديني، أو الانتماء إلى المنطقة، واعتمدنا عليها في تفسير الموقف الذي تتخذه القوى في الصراعات حول السلطة.
وإذا كان العامل المذهبي موجوداً وحاضراً في الكثير من جولات الصراع اليمني، إلا أنه ومنذ بداية بروزه على الساحة اليمنية، كان مجرد راية للتعبير عن موقف سياسي، ترفعه الزعامات القبلية بهدف الحفاظ على نفوذها داخل السلطة، وتحقيق مكاسب ومصالح للقبيلة من خلال تحالفها مع الحكومة المسيطرة.
وفي تاريخنا القديم والحديث والمعاصر نماذج كثيرة وشواهد تؤيد صحة ما ذكرناه، ومن ذلك اعتناق أحد تبابعة اليمن في القرن السادس الميلادي الديانة اليهودية، خشية من انتشار الديانة المسيحية، التي قد تؤدي إلى التبعية للحبشة والرومان، بعد أن استخدمتها تلك الدول وسيلة من وسائل النفوذ وأداة من أدوات التبعية.
بينما رأى ذو نواس أن اليهودية حينها لم تكن تعتنقها دولة قوية يمكن استغلالها كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية، وكان وراء اعتناق الديانة اليهودية التوحيدية للملك اليمني هدف سياسي يتمثل في ايجاد ايديولوجية مشتركة بين سكان البلاد في المناطق المختلفة، فاعتناق اليهودية في اليمن كما تقول “أيفونا غاجدا” لم يكن “مجرد خيار ديني فحسب بل قرار سياسي هام”.
وفي العصر الإسلامي وبداية ظهور المذاهب تبنت بعض المناطق اليمنية، والزعامات القبلية للمذاهب الوافدة كمذهب الخوارج والاسماعيلية والزيدية والسنة، واحتفظت بعضها باستقلاليتها، وكانت الأهداف متعددة منها شرعنة التمردات على سلطة الحكومة المركزية للخلافة الأموية والعباسية، وبعضها لتحقيق أهداف داخل السلطة، وبعضها لكسب الدعم والتأييد من قوى خارج اليمن كالخلافة العباسية في بغداد، أو الفاطمية في مصر.
أكثر ما يطالعنا في تاريخ اليمن السياسي من عهد المكاربة في القرن السابع الميلادي، هي وثائق التحالفات بين الشعوب والممالك اليمنية القديمة، بحيث تعد الركيزة الرئيسية، والقاعدة الأساسية لتشكل الدولة اليمنية.
ولقد كان لاستمرار التحالفات بين القوى أثره على الاستقرار في حياة الدولة اليمنية قبل الميلاد، بحيث نجد طول فترة بقائها مقارنة مع الكيانات التي ظهرت في اليمن بعد الإسلام، التي يبدو فيها عدم صمود التحالفات لفترة طويلة.
لقد ظل بقاء الكيانات السياسية في اليمن بعد الإسلام مرهونا بمدى قدرة حكامها بصناعة التحالفات وتعزيزها بين فترة وأخرى، ولم تكن التحالفات تقتصر على أصحاب المنطقة الواحدة، وبين أتباع المذهب الواحد، بل كان له صور متعددة، ففي عهد الدولة الصليحية ذات المذهب الإسماعيلي الخارج من عباءة التشيع، نجد الأمراء العيانيين من المذهب الزيدي الذي يتفق مع الإسماعيلية في كونهما من مذاهب الشيعة، يتحالفون مع بني نجاح السنة المتواجدين في زبيد والمرتبطين بالخلافة العباسية في بغداد، ضد الصليحيين الشيعة.
وتحالف النجاحيون السنة، مع الإمام الزيدي أحمد بن سليمان ضد الرعيني، ومع ذلك فقد فشل هذا التحالف، كما فشل تحالف العيانيين الزيود مع النجاحيين الأحباش ضد الصليحي.
ولا يقتصر هذا النمط من التحالفات على عصر بعينه، ولكننا نجد له أمثلة وشواهد في مختلف الحقب التاريخية، ففي عهد الرسوليين مثلا تحالف الأشراف الحمزيين من أولاد الإمام عبدالله بن حمزة، مع الرسوليين ضد دعاة الإمامة، والتصدي لهم والنيل منهم.
فالمصالح هي التي ظلت ترسم حدود التحالفات، وتحدد مواقع الأطراف وأماكنها بعيدا عن الولاء المذهبي، والانتماء المناطقي.
كما أغرت مرونة القوى اليمنية خلال بعض الفترات التي كان يدور فيها الصراع بين قوى محلية وأخرى أجنبية، أن ينتقل بعض زعماء الجند والمؤثرين في معسكر الطرف الخارجي للتحالف مع الطرف اليمني، منها على سبيل المثال تمرد بعض المماليك الغز على سلطانهم الأيوبي في اليمن ووقوفهم إلى جانب الإمام عبد الله بن حمزة.
تحالفات قوى داخلية مع قوى خارجية
كما عرفت اليمن تحالفات بين أطراف محلية مع أطراف أجنبية في مواجهة قوة داخلية، ومن ذلك تحالف الملك السبئي علهان نهفان، وملك حضرموت، مع الملك الحبشي جدرت في القرن الميلادي الثاني ضد الملك الحميري، وقد انتصر هذا التحالف على حمير، غير أنه لم يستمر، إذ بادر ملك سبأ بعدها لتصفية النفوذ الحبشي من السواحل اليمنية والتهائم، واعقبه أيضا الحرب بين المتحالفين المحليين وتواجه ملكا سبأ وحضرموت، بحيث انفرط التحالف الثلاثي بمجرد تحقيق هدفه الأول ولم يكتب له الاستمرار؛ ومثل ذلك جرى في القرن السادس الميلادي في عهد سيف بن ذيزن غير أن نتائجه كانت مغايرة عن نتائج التحالف السابق.
وقد تكرر الأمر مرة أخرى في القرن الخامس عشر للميلاد، حين تحالف الإمام شرف الدين الزيدي مع المماليك السنة، ضد دولة بني طاهر اليمنية، التي كانت تخوض حربا لإخضاع المناطق الجبلية في الشمال التي يستولي عليها الإمام يحيى شرف الدين وولده المطهر، وخلال ذلك داهمت اليمن قوات المماليك القادمة عبر البحر من مصر إلى اليمن، بدعوة من سلطان الطاهريين للتصدي لأسطول البرتغاليين في البحر الأحمر والبحر العربي، إلا أنه بمشورة أحد وزرائه بدل موقفه ورفض تقديم العون، فانتهز الإمام الفرصة وأرسل إليهم يعرض التحالف للقضاء على بني طاهر، وقد تحقق ذلك الأمر للإمام غير أنه بعدها أعلن الجهاد ضد المماليك، وبعدها خلال الصراع الذي دار بينه وبين ولده المطهر، استطاع ازدمر باشا التقدم من زبيد تجاه صنعاء وهزيمة قوات المطهر ودخل المدينة بمعاونة بعض أتباع الأخير كما يقول فاروق أباظة، وتكرر هذا النمط من التحالفات في القرن التاسع عشر بين أحد دعاة الإمامة وبين الأتراك، بحيث استدعاهم من الحديدة وسهل لهم دخول صنعاء .
القوى والبحث عن المكاسب
ظلت القبائل اليمنية تبحث عن الشراكة في الحكم، والحصول على دور أساسي ورئيسي في السلطة، يكفل لها ضمان تحقيق مصالحها، وصيانة امنها واستقلاليتها، وليس التبعية والخضوع.
فهي لا تملك مشروعا أو طموحا للحكم، لكنها بالتأكيد تشكل أداة ضغط قوية ضد السلطة أو معها، وترجيح كفة هذا الطرف أو ذاك، فخلال 1200 سنة لم تعرف اليمن فيها دولة القبيلة الغالبة كما يقول الدكتور محمد الظاهري، وإن قامت دول ذات جذور قبلية كالصليحية، فإن الغطاء الذي استمدت منه شرعيتها لم تكن القبيلة، وانما المذهب.
بعد عقد اتفاق صلح دعان عام 1911م، بين الإمام يحيى والأتراك، والذي بموجبه تم الاعتراف له بالزعامة الدينية على مناطق اليمن الأعلى، وجدت القوى القبلية التي خاضت الصراع إلى جوار الإمام أن بنود الصلح لا تلبي طموحاتها، وأن تضحياتها والعون الذي قدمته صب في نهاية المطاف لخدمة مصالح ضيقة تخص الإمام يحيى دون بقية شركائه من القبائل والزعامات التي كان لها الدور الرئيسي في تحقيق انتصاراته، بل وتنصيبه ومبايعته كإمام قبل ذلك، كما أدركت القوى القبلية من بنود الصلح نية الإمام وسعيه نحو الاستفراد بالسلطة من دونها .
ففي أوائل القرن الماضي تمكن الإمام يحيى ومن قبله والده المنصور، تشكيل تحالف مع قبائل حاشد وبكيل وبعض القبائل الأخرى لمواجهة العثمانيين في اليمن، وقد أدى ذلك بعد العديد من جولات الصراع وصول الطرفين إلى تسوية وعقد صلح، حصل بموجبه الإمام على الاعتراف به كزعيم ديني كما يرى محمد أنعم غالب، إضافة إلى بعض الامتيازات التي تعزز من سلطته في مناطق شمال الشمال، وقد نتج عن ذلك رفض الزعامات القبلية، في حاشد وبكيل، لبنود الصلح الذين رأوا فيه عدم تحقيق مصالحهم أو حصولهم على مكاسب سياسية ومادية، وخصوصا قبيلة حاشد التي كانت أراضيها معقلا للإمام، وشكلت قاعدة انطلاقه لمواجهة الأتراك، بينما حصلت بعض القبائل على وضع خاص، مثل قبيلة آنس وخولان والحدا، الأمر الذي دفع ناصر مبخوت الأحمر شيخ قبيلة حاشد لرفض الاتفاق والتمرد على الإمام، والسعي للتحالف مع الادريسي الشافعي المذهب في منطقة عسير بحجة أنه ما زال يقاوم العثمانيين، بعد أن وجد اتفاق دعان لم يحقق له ولقبيلته اي مكاسب سياسية بل وجد فيه تجاهلا من الإمام لدوره ودور حاشد، وبالمثل سعى أحد زعامات بكيل حسين أبو راس للتحالف مع بعض القوى الاجتماعية في مناطق اليمن الأسفل، وفي مقدمتها شيخ الطريقة الشاذلية الصوفية للوقوف ضد الإمام يحيى والاتراك معا، الأمر الذي اسفر عن مقتل أبو راس، ومثله بادر الشيخ يحيى بن يحيى الشايف من زعماء ومشايخ بكيل للنزول والتحالف مجددا مع قوى قبلية في اليمن الأسفل، وربما بدعم وتشجيع من الانجليز في الجنوب، بهدف تصفية نفوذ العثمانيين في تلك المناطق، واستباقه للسيطرة عليها قبل الإمام يحيى، لكنه لقي حتفه بعد التآمر عليه من قبل الإمام والأتراك، وباءت حركته بالفشل .
تحالفات متبدلة
لم تكن التحالفات بتلك الصورة أمر يخص قبائل حاشد أو بكيل وحسب، حيث الزعامات القوية، بل تعداه إلى الكثير من قبائل الشمال، فقبيلة رازح الزيدية التي تقطن في منطقة صعدة، العاصمة التاريخية للإمامة، وقاعدة المذهب الزيدي، تعقد بعد عام 1911م تحالفات مع الإدريسي السني الشافعي المذهب في منطقة عسير، وترسل إليه عددا من أفرادها رهائن لتأكيد ولائها وتحالفها معه ضد الإمام يحيى إمام المذهب الزيدي، ومثلها كانت قبائل خولان بن عامر في صعدة قبل عام 1911م هي الأخرى قد تحالفت مع الإدريسي وساعدته، وقدمت له العون الذي استطاع حينها أن يصل ويسيطر على عدد من مناطق صعدة، ولولا دعم حاشد آنذاك التي كانت متحالفة مع الإمام لواصل الإدريسي بسط نفوذه على بقية أرجاء المعقل التاريخي للإمامة.
وإذا كانت حاشد ابان تحالفها مع الإمام يحيى قبل اختلافها معه بعد اتفاق صلح دعان، قد تصدت لقوات الإدريسي، وأدبت قبائل خولان بن عامر التي ساعدت الأخير في دخول الكثير من مناطق صعدة، فإنها بعد اختلافها مع الإمام كما أسلفنا، وقفت إلى جوار حاكم عسير السني خلال حروبه مع الأول، وعززت من قوته، في مواجهة خصمه، ومكنته بقيادة زعيمها ناصر مبخوت الأحمر من هزيمة الإمام ودخول صعدة، وكان الإدريسي كما يقول صاحب كتاب “تاريخ المخلاف السليماني” قد راسل عددا من قبائل صعدة واستطاع أن يكسبها إلى جانبه.
نقف من خلال الأمثلة السابقة أمام تحالفات سياسية متبدلة ومتقلبة وفقا للمصالح نسجتها القوى القبلية متجاوزة عقدة المذهب أو المنطقة، فقد تحالفت زعامات قبلية ذات انتماء زيدي، مع زعامات سنية في عسير أو في “اليمن الأسفل”، وفي الوقت نفسه عرفنا أن أحد مشايخ الطرق الصوفية في تعز تحالف مع قوى قبلية في “اليمن الأعلى” لمواجهة العثمانيين السنة، والإمام الزيدي يحيى حميد الدين، وقبل ذلك في القرن السابع عشر نجد سلطان حضرموت بدر بن أبي طويرق يتحالف مع الإمام المتوكل على الله إسماعيل ويستنجد به لاسترداد حكمه ضد أحد أقاربه الذي استولى على السلطة، ومثل هذا الأمر يتكرر مع الرصاص سلطان البيضاء في عشرينات القرن المنصرم الذي ذهب إلى الإمام يحيى لطلب العون لإرغام بعض القبائل التي رفضت دفع العشور له وتمردت على سلطته، لكنها أخذت منحى مغايرا لما اراده سلطان البيضاء، إذ استغل الإمام ذلك وضم البيضاء بعدها لحكمه .
تظهر سرعة تبدل الولاءات لدى القوى اليمنية، وعدم ارتباطها واعتبار الانتماء إلى المذهب مرجعية في نسج تحالفاتها، من خلال الشواهد التاريخية المختلفة صورة واضحة لطبيعة الصراع الذي كان يدور حينها وما زال يتجدد بين فترة وأخرى، بأن محركاته لم تكن دينية، أو ذات جذور مذهبية، فأكثر المظاهر تضليلا في قراءة الصراع الدائر في البلد هي تلك التي تريد تصويره على أنه صراع بين شمال وجنوب، أو بين زيود وشوافع، أو بين منطقة وأخرى، بينما هو صراع يتمحور حول السلطة والثروة، واليوم يدور حول الدولة الاتحادية أو اللادولة، ويعد موضوع الثروة والسلطة هو المحرك الفاعل لدورة الصراع القائم.