فكر وثقافة

هكذا المطر في قريتنا ..

عبدالرزاق الحطامي

يمتد القحط لأشهر .. سنوات ، تجف الآبار وتنشف السدود وتنضب عين الماء الوحيدة.. يرتفع سعر الوايت الماء حتى يعجز الكثيرون عن التفكير بشرائه ..

في الدروب الزلقة،  الضيقة للغاية ، وهي تتلوى كأفعى أحفورية على حواف الجبال من أعلى ارتفاع لها ، لا تنقطع أسراب النساء الواردات.. يجلبن الماء من آبار بعيدة ومهاوٍ جبلية تطل مباشرة على الموت السحيق  ..

لكل منهن شِربٌ معلوم ، وأغلبهن يأتي دور سقايتهن في هزيع ليل بلا قمر ونجوم.

قهر الدنيا كله لامرأة تزحلقت على صلعة صخرة في الدرب الأملس، فاكترع السطل وضاع النضال.

وقريتنا لا تزرع ولا تقلع . عزلة بني حطام بمجموع قراها المكتظة بالبيوت، سكانها إما مغتربون أو ينسجون المعاوز اليدوية.

يبلغ العطش بالقرية مبلغ التهلكة، ووسط هذا القحط المميت ينسى الناس الله ، لا يتذكرون صلاة الاستسقاء إلا إذا ناشدتهم المآذن، وقليل منهم يلبون مستعجلين، ويؤدونها بلا دمعة بكاء ولا عطفة رداء، كعادتهم حين يودعون جنازة ميت.

ثمة كهل ، كهلان ، ثلاثة لا أكثر ،  يملكون جِربا زراعية جرداء ، لا يزرعون شيئا إذا انهمر المطر ، وهم كما جرت بهم العادة يحرثون ويبذرون الأرض عند ذروة الجحر وغياب السحاب لأن علان قد اقترب موعده.

هنالك تنشأ معركة الغنمة والكهل .. أية غنمة شاردة تبحث عن كلأ من حشائش السافانا تقصد جربة الكهل العليم، وتقطع مسافات بعيدة لتنال من الحرث المبذور قشرة .. يحبسها الكهل ، يعذبها في أسطبل سري، حتى تزهق من ظمأ وجوع ويذهب إلى الصلاة جماعةً ظافراً  ..

المحاكم والمشائخ يشبعون من أموال المتشارعين .. وعائلات تبحث عن غنمات، مجهول مصيرها.. وعن محمد المحمدي.

شهدتُ مرةً جولة من معركة الكهل والغنمة.. كانت من كبرى منازلات المعركة التاريخية، إذ دامت لأشهر حتى أفلس الطرفان.

ثم ها هو المطر ..

الأربعاء موعده على الأغلب، وعلى قرن القرية.

تكفهر السماء وتحتشد السحب ، تكاد تسقط كسفا مثقلة بأطنان الأمزان .. يظلم النهار حتى يعمى بصره،  و ينفجر ماء السماء..

ساحاً مطبقاً ينهمر ، فتنهار المدرجات الزراعية التي لا تزرع شيئا إلا بذور المعركة ، وتنحجب الرؤية تماما بين بيت وبيت .. يسيل السيل هائجا وسط ليل يرتمي، وتعرى جدران بيوت من أسقفها ..

مخيفٌ هدير السيل في القرى البعيدة ، وهو يتقاطع مع دوي الرعود المصطخبة، والصواعق تزأر لوامع وبروقا حتى تضيء قناديل منسية بالكهرباء وتتماس الأجساد بالأجساد، وسط التيار.

المساجد تؤذن فزعى إلى سائق المطر، تناشد الأهالي الاستغفار والتوبة ولا أحد بمسمع..

تنتحب الأمهات ويرتعد الآباء كأرانب .. الأطفال ينكفئون تحت السرر ويختبؤون خلف الجدات .. اللهم حوالينا لا علينا يا الله، مطر رحمة لا مطر عذاب ..  يا لطيف لم تزل ألطف بنا بما نزل أنت اللطيف لم تزل ألطف بنا والمسلمين.

يستجيب سائق المطر تواً ، يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي، ويغيض الماء  ، إلا من سيل هادر مُشقَّر بدكاكين وأوادم ومستشفى وسور مدرسة..  سيل محمل بالبطيخ وكراتين الموز وعصائر البقالات الباردة مع قمائم السنين الغابرة .. تعلوه الجدران المنهارة من جوانب الأماكن وجذوع الأشجار المعمرة، و قرون الرعب الطافي على غثاء الماء الأربد التي هي أطول من الأشجار . يذهب السيل بكل شيء إلا كهل الجربة الجرداء وطبول الحرب ..

وسرعاناً ، يعود القحط أشد وأطول مدى ..  تبدأ جولات وصولات  جديدة من الحرب الدائمة بين الكهل والغنمة. .

بينما امرأة أرمل يدعونها “مونتكالرو” تهجل في الوادي صباح الخميس : ” لولا رحمته بالأغنام لما نزلت قطرة مطر ولا جف السيل في بني حطام”.

من صفحة الكاتب على فيس بوك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى