فكر وثقافة

هل كتب عرب ما قبل الإسلام شعرهم؟

منصف الوهايبي

يقول المستشرق الألماني فرتس كرنكوف: « في وسعنا أن نتحقّق من أن الكتابة لم تكن شيئا نادرا في بلاد العرب، كما يفترض عامة، ذلك أننا حين نقرأ أشعار الشعراء التي وصلت إلينا، فإننا نجد فيها مرار إشارات إلى الكتابة… كما نجد أنّ فنّ الكتابة قد بلغ درجة معينة من الكمال، وأنه كان لدى الشعراء إحساس بجمال الكتابة المزوقة». ويعزّز كرنكوف رأيه بأبيات من شعر امرئ القيس والحارث بن حلّزة وحاتم الطائي وقيس بن الخطيم…. تشبّه فيها الديار المهجورة بآثار الكتابة وصورها أو تذكر فيها أدوات الكتابة وموادها.

ويستدل بشواهد من «طبقات الشعراء» ومن شرح السكري على قصائد زهير وابنه كعب ومن كتاب «النقائض». من ذلك أنّ محمد بن سلاّم الجمحي، يذكر أنّ النعمان بن المنذر ملك الحيرة كان عنده «ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح أهل بيته به، ثم صعد ذلك إلى بني مروان، أو صار منه» والسّكري يشير إلى أنّ مجموع قصائد زهير وأسرته هو من محفوظات بني غطفان. ثمّ يخلص كرنكوف إلى نقطة مهمّة في بحثه تسوّغ ما يذهب إليه من ذيوع الكتابة في بيئة العرب القدماء، هي القراءات المختلفة للقصائد القديمة؛ فعدد من هذه القراءات «لا يمكن أن يرجع إلاّ إلى اختلاف في قراءة الحروف غير المنقوطة التي كانت في الخط العربي القديم». ويورد أمثلة من ديوان عامر وديوان الهذليّين وديوان عمرو بن قميئة وديوان المتلمس، يستوعب الواحد منها أكثر من قراءة ترجع إلى الخطّ المجرّد من الإعجام والشّكل. ثم يدفع بالتأويل إلى احتمال يبدو لنا سائغا، ويقول: «في وسعي أن أمضي إلى أبعد من هذا فأقترح أنّ نظم القصائد وفنّ الكتابة قد ارتبطا بوضوح، ومن المحتمل أنّ الشاعر كان هو أيضا الشخص الذي مارس فنّ الكتابة السحري».

وفي السياق ذاته ينشر نجيب محمّد البهيتي، في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، كتابه «تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري» ويعقد فصلا فيه لرواية الشعر العربي القديم. ونجده في هذا الفصل يستمسك بـ«منهج تاريخيّ» في تثبيت الفكرة القائلة بأنّ الشعر الجاهلي قد نقل أغلبه من أصول مكتوبة، فيستظهر بالتاريخ، ويتلمس منه لفكرته شتى المسوغات، ويتسقّط لها شتى المعاذير؛ فـ«حضارة العرب والجنس السامي عامة قد اقترنت أبدا بالكتابة، لم تفارقها لحظة واحدة، فضلا عن وجود شواهد خاصة في التاريخ العربيّ على هذا وفي صميم الشعر نفسه ما يدلّ عليه. فقد غبرت الأمم السامية كلّها على لون من ألوان النّشأة الحضارية عجيب، تقترن فيه الكتابة بالبدائي من مظاهر العمران وتسايره في خطواته المبكرة جدا».

ويسترسل الباحث إلى فكرته ويرى في «تعليق القصائد» على الحرم الأكبر في مكّة ما يخالف هذا الوصف ويباينه ويدفعه، ولا يتنبّه إلى أنّ الأخبار التي استفاضت في أمر هذا التعليق «في «العقد الفريد» و«العمدة» و«المقدّمة» ضعيفة وليست ثبتا من الأثبات، فلم يذكرها أيّ من الكتاب الأقدمين مثل الأزرقي وابن هشام والكلبي وابنه على عنايتهم البالغة بتاريخ مكّة وبشتى التفاصيل والشوارد المتعلّقة بالكعبة.

وبعد ستّ سنوات على صدور «تاريخ الشعر العربي» للبهبيتي، يخطو البحث في مسألة الرواية والكتابة عند العرب خطوة كبيرة برسالة ناصر الدين الأسد «مصادر الشّعر الجاهليّ وقيمتها التّاريخيّة». ويعنينا من هذه الرسالة بابها الثّاني الموسوم بكتابة الشعر الجاهلي وتدوينه» وقد مهد له الباحث بحديث تاريخي مفصل استهدى فيه بالنقوش النبطيّة القليلة والوثائق التاريخيّة الجاهلية والإسلامية. وقصر بحثه فيها على الجانب الخطّيّ المتّصل بصورة الحروف وأشكالها ليستنتج من ذلك: أنّ الخطّ العربيّ الخالي من النّقط والإعجام مشتقّ من الخطّ النّبطي، وهذا ما يرجّحه المستشرقون أيضا. وأنّ العرب كتبوا بهذا الخطّ ثلاثة قرون قبل الإسلام على أقل تقدير. وأنّ الكتابة كانت منتشرة في البيئات المتحضّرة مثل مكّة والمدينة والطّائف والحيرة والأنبار، وهذا الانتشار يدفع عنهم ما وصموا به من جهل الكتابة والقراءة.

نحن لا ندفع أن يكون لهذه التّشبيهات المتواترة في كثير من الشعر القديم ولتخريجها، أكثر من وجه من أوجه التأويل والتقدير، لكن ليس من حقّنا أن نلتمس فيها الذّرائع لعلاقة سببية بين الشعر والبيئة التي درج ونشأ فيها.

ويستند الباحث إلى هذه النّتائج، فيتميّز الفروق بيت تقييد الشعر وتدوينه؛ أي بين صورة ضيقة من صور الكتابة لا تعدو مجرّد تسجيل القصيدة، أو المقطّعات التي لا تبلغ مبلغ القصيدة الكاملة، وأخرى كان فيها للرواة منادح رحبة في جمع الشعر على أسس علميّة متينة. وهي مرحلة التدوين التي شملت مشاهير الشعراء وأغفالهم ومقلّيهم مثلما شملت شعر القبائل والحماسة وما عرف بالاختيارات وشعر المعاني الغريبة.

 

فإذا كان من نتائج الاستقراء التاريخيّ إثبات الكتابة للعرب واتّساع ميدانها وتشعّب موضوعاتها، حتى أنهم كانوا يقيّدون عهودهم ومواثيقهم وسواها من الأمور التي تتّصل بمعيشهم، فإنه من الرّجاحة بمكان أن يكونوا قد قيدوا الشعر وهو ديوانهم وسجلّ مفاخرهم ومآثرهم. وربّما نهض بهذا التقييد الشعراء، أو رواتهم، خاصة أنّ منهم طائفة كانت تعرف الكتابة وتستخدمها. وربما نهض به رواة القبائل، والممدوحون من ملوك الحيرة وملوك غسّان وأعيان مكّة والمدينة والطائف ونجران واليمن. حتّى إذا استكمل الباحث هذه الفرضية واستوفى شرائطها وحدودها قدّر الأمر على نصوص وشواهد من «شعر الصنعة» في الجاهليّة وصدر الإسلام. وهو الشعر الذي يقوم على انتخاب اللغة وتهذيب القصيدة وتنقيحها. يقول الجاحظ: «ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولا كريتا وزمنا طويلا، يردّد فيها نظره، ويجيل فيها عقله، ويقلّب فيها رأيه… وكانوا يسمّون تلك القصائد: الحوليّات والمقلّدات والمنقّحات والمحكمات».

ويرجّح الباحث أن هذا الضرب من «شعر الصنعة» وهو ليس من المرتجل، كان يفرض على أصحابه أن يقيّدوه ويثبّتوه بالكتابة فـ«كيف يستطيع هؤلاء الشعراء أن يقوموا بهذا العمل العقلي الذي يستغرق هذا الوقت المديد، دون أن يكون الشعر مقيّدا أمامهم على صحيفة يرجعون إليها بين وقت وآخر: يزيدون عليه أو ينقصون منه، ويستبدلون لفظة بلفظة، وقافية بقافية؟

ويمضي الباحث قدما في استنباط الأدلّة العقليّة التي تؤيّد افتراضاته فيقف، كما فعل كرنكوف والبهبيتي قبله، على أبيات من الشعر الجاهليّ فيها حفاوة صريحة بمفردات الكتابة والقراءة جاءت في صور شعرية مركبة تنبئ «عن أنّ قائلها لا بدّ أن يكون عالما بهذه الصور، وأنّ الجاهل بما لا يتأتّى له ذكرها ووصفها على هذا الوجه المفصل». ففي وصف الكتابة بأنّها «رقم» و»وشي» و»نمنمة» وفي وصف الصحف بأنّها ناعمة رقيقة «كالرّياط» يمحوها الكاتب الحميريّ ليكتب عليها، ما قد يدلّ على أنّ هذا الشّاعر المخضرم كان على علم دقيق بأنواع الكتابة والحروف. وربّما جارينا الباحث في هذا الاستنتاج، لكن دون أن يصحّ في تقديرنا أن نقطع بكتابة القصيدة من شفهيّتها، ولا بصيغة هذه من صيغة تلك، وليس في معرفة الشاعر بالكتابة ما يجوّز القول إنّ قصيدته من الأدب المكتوب، فشتان ما بين الأمرين! بل لعلّ الأصوب أن نقول إنّها لون من التّشبيهات اللّطيفة التي تنشأ في حيّز «المتخيّل الطّلليّ» وقد تعاود فيها شعراء العربيّة واحتالوا لها بطرائق فنّية شتّى، عسى أن يجدّدوها أو يزيدوا عليها. ولعلّ في تعاودها ما يجعلها بالكلام الشّفويّ أمسّ رحما، إذ يلمّ التّعاود أنماط التّعابير ويوحّدها ويؤمّن انسيابها في ذاكرة المتلقي، فيتسهل استقبال الرسالة الشعريّة، ويترسخ بالصّيغ المكرورة والصّور المتعاودة على نحو أيسر. فليس لنا إذن أن نحمل مثل هذا المتخيّل محملا لفظيا قاطعا أو نقصره على ناحية قد تكون من أبرز معانيه وأقربها إليه، أو نملي عليه ما ليس منه، وفيه على وضوحه شيء من سرّ غامض وشأن خفيّ: فأي مشترك دلاليّ يمكن أن يقوم بين عالم الأطلال وعالم الكتابة إلاّ ما تنشؤه لغة الشعر وتسوغه؟

نحن لا ندفع أن يكون لهذه التّشبيهات المتواترة في كثير من الشعر القديم ولتخريجها، أكثر من وجه من أوجه التأويل والتقدير، لكن ليس من حقّنا أن نلتمس فيها الذّرائع لعلاقة سببية بين الشعر والبيئة التي درج ونشأ فيها. فهذا مسعى لا يذود عنه طبع الشعر حسب، وإنّما ينحرف بهذه التشبيهات عن الغاية المنشودة منها، وهي على ما نرجح، إضفاء صفة السحر على صورة الطّلل لا إخراجها إلى الأظهر، كما يقع في وهم النّاظر فيها أوّل وهلة. والكتابة في ما يقرّره أهل الذّكر من الباحثين المعاصرين، إنما اقترنت أوّل حدثانها، أو في المجتمعات التي لم تكن ذائعة فيها، بالسحر والأسطورة، وكثيرا ما كانت مثار دهشة وفتنة وإعجاب. فليس بالمستغرب إذن أن يجد هؤلاء الشعراء ضالّتهم من هذه التّشبيهات في الكتابة، دون أن يعني ذلك أنّهم كانوا يمارسونها حقا.

٭ كاتب وشاعر تونسي

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى