كتابات خاصة

جبهة فهد القرني

حسين الصوفي

يقاتل فهد القرني وحيداً، يناضل منذ عقدين بمفرده، مخذول لم يجد من يسانده كما يجب أن يكون فهد الفنان والمخرج والمفكر، والمشروع، يحتاج هذا الرجل إلى بيئة ترد له بعض الجميل، وتسانده مثلما ساندها يوم كانت الساحات خالية. قبل أسبوع نشر ناشطون صورة للفنان فهد القرني من خطوط التماس بعد فرضة نهم، كانت تلك الصورة وحدها تواجه سيلا من الشائعات التي بثتها ماكينة الإعلام الإنقلابي الكذوب حول جبهات الحرب!
في غرة مارس الجاري، جاء فهد القرني إلى مأرب، قادماً من تعز، كان البعض قد صنفه ضمن “شلة المحايدين” في هاشتاق الهجوم على الحياد السلبي #حايدي_و_ارقدي، لكن فهد قال فيه إنه كان نائبا للتوجيه المعنوي في مقاومة تعز، لم يكن غائبا البته، قال إنه كان يقوم بواجبه في اللحظة الفارقة التي لا يتخاذل فيها وعنها إلا مخذول.
الليلة عدنا من اللواء 302 ميكا في مأرب، لواء الفتح، كان فهد القرني يقاتل وحده، يحارب بجدارة وجسارة ونضج، كان يقف شامخاً بطلاً ممتلأً بالعتاد الفكري والفني، حاضر الوعي يردم الفجوات التي تُهزم منها الجيوش على مر التاريخ.
راقبت ألفاظه وانفعالاته الدرامية والمسرحية، وكان تلقائيا، لكنه لم يخن أمانته ولم يختل مسؤوليته، ولم يخذله دوره لحظة واحدة، فهد منظومة وطنية متكاملة، حين تتزاحم المصطلحات تحت لسانه يتأتأ بمسؤولية وينتقي الألفاظ والتوصيفات العميقة في أثرها ومدلولاتها، يحرص أن يوصّف شرذمة العصابة الحوثية بالإنقلابيين والمتمردين، ويخاطب الضمائر ويبرمج العاطفة والمشاعر، ويغرس قيم الحرب بالابتسامة.
في مسرحية من جزئين، حارب فهد القرني بقوة، ألقى ببنات أفكاره في عقول الجنود، ملأهم بالحماس، حملهم مخدرين، بالضحك، وأنضجهم بالفكاهة، ثم نوّمهم مغناطيسيا بالفن والدراما المسرحي البارع، ثم تجول بعقولهم في عقولهم، وبحث معهم عن العدو الحقيقي، كان الجنود مشدوهين يشاهدون أنفسهم، يتابعون صورة مصغرة لما يجري لهم في الجبهات بشكل يومي، واكتشفوا حجم الأخطاء التي تتحول إلى أخطار ومخاطر مهلة رغم صغرها في نظرهم، لكن فهد القرني كبّر الصورة، وقرّبها وسلط عليها الأضواء ووضعها تحت مجهره الفني، وقال للجنود: هكذا تخذلون أنفسكم، بالاستسلام للإشاعات، والانصياع خلف الواتس والفيس، والضخ الإعلامي المتلاعب بالأفكار، الذي يسرق النصر ويهزم الخصم نفسياً ومعنويا، فتح لهم فهد الستار عن حجم خطر الواتس في جبهات القتال، وعن أشياء عديدة.
في محور آخر أثناء العرض المسرحي، كان فهد القرني يغرس في أذهان الجنود وقادتهم أخلاقيات الحرب، وكان يعيد تعريف الصراع، ويعزز من جبهة التحالف العربي، قال للجنود: “هم يقولون إنكم مرتزقة سلمانيين، تقاتلون في صفوف السعودية” أليست السعودية دولة عربية، ثم سألهم: هل كنتم ولا تزالون تنادون بتحرير فلسطين؟ فهتف الجنود: بلى، قال فهد: أنتم تريدون تحرير فلسطين لأنها أرض عربية، والسعودية جاءت تخلصنا من الاحتلال الفارسي لأننا أرض عربية أيضاً، فلا تحزنوا من قول أذناب فارس وإيران وروسيا، الذين يعيروننا بالأشقاء، بينما هم أذناب للأعداء.
تنقل فهد في مسرحيته التي لم تتجاوز الساعة والنصف، بين ترتيب أفكار القادة والجنود، وتحرير بعض السلوكيات الخاطئة، وبين التعبئة النفسية والتحصين المعنوي للجنود، وبين التذكير بالأهداف الكبرى للصراع، وأنها حرب دولة ضد عصابة متمردة انقلابية، ولم يكن يبخل بالمزيد من المزاح والضحك وشد العزيمة والنصح والوعظ، فهد يقاتل ببسالة في جبهته التي وجد نفسه فيها وحيداً.
يوم وصل القرني إلى مأرب تشرفت بالجلوس معه، وتناقشنا كثيرا، وضحكنا وتجادلنا بالحسنى، وكنت منذ أول لحظة جلست فيها معه، قد عقدت العزم على رفع سقف الحديث معه متجاوزا مساحات مجاملات اللقاء الأول، لا أزال أتذكر منسوب الوعي الذي صنعه فهد القرني في مخيلتي منذ سنوات في مسرحيته الأقوى بعنوان ” وبعدين يا عرب”!!
قال لي فهد: كيف أتيت إلى مأرب، قلت له هارباً متخفياً ملاحقا، وقد تخلخلت الأواصر الاجتماعية، بعد أن فككها الاحتلال وانقلب على أخلاق المجتمع وضميره، فباع الأقارب في أقاربهم والصاحب في أصحابه وابن القبيلة في قبيلته، وبلغت العداوة والبغضاء إلى تحت العظم، وأضفت له: لكنني تشردتُ هارباً يوم دخل أبطال الجيش والمقاومة إلى فرضة نهم بعد تشردهم منها قبل نحو أحد عشر شهراً.
عندها ابتسم فهد وقال: اللحظة المأساوية التي تعرض لها أصدقاءك في أرحب ونهم قبل أحد عشر عام تعرضت لها أنت بعد عام ربما، وبنفس التفاصيل، أي أن من تآمر على إخراجهم وتدمير منازلهم وقتل اخوانهم في أطراف صنعاء وعمران، كانوا من أبناء قراهم وقبائلهم، وذلك حدث قبل عام، وبعد العام عاد أولئك المظلومون المشردون إلى منازلهم، بينما هرب الحوثة والمتحوثون من القرى المحررة من الانقلاب، وفي تلك الأثناء كان المشهد بذاته يتكرر عندكم في عنس ذمار!! قلت بلى للأسف!
قال فهد: ولو كانت الدراما حاضرة لما حدث الوجع مرتين، ولحاربنا مرة واحدة بكلفة أقل، ذلك أن الدراما لا تنقل الأخبار، بل تعكس الواقع بكل تفاصيله الاجتماعية والنفسية والسياسية والعسكرية، وتخاطب الجميع أينما كانوا ومن كانوا!
يقاتل فهد القرني وحيداً، يناضل منذ عقدين بمفرده، مخذول لم يجد من يسانده كما يجب أن يكون فهد الفنان والمخرج والمفكر، والمشروع، يحتاج هذا الرجل إلى بيئة ترد له بعض الجميل، وتسانده مثلما ساندها يوم كانت الساحات خالية، فلا تخذلوا فهد القرني، ولا تتركوا جبهة الدراما مكشوفة لأن التقصير في جانب ما مصيبة لا تغفرها الأيام..
كونوا مع جبهة القرني يا أيها المعنيين، وأنقذوا الدراما، وساندوا جبهة فهد القرني لعلكم تنصرون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى