اليمن… تعميق الكارثة الإنسانية
خالد اليماني
على الرغم من رأسماله البشري وموارده الطبيعية وموقعه الجغرافي الاستراتيجي، كان اليمن وما زال، في قعر قائمة أفقر دول العالم، إذ ابتليَ بنظم حكم كانت سبباً في تعميق مستويات الفقر والتهميش وانتشار الفساد. ومنذ وقت مبكر، مع انتصاف العقد الأول من القرن الحالي، وضعت الأمم المتحدة اليمن في المرتبة 151 أسفل قائمة تشمل 177 دولة على مؤشر التنمية البشرية.
لقد أفقرت صراعات النخب السياسية اليمن، جنوباً وشمالاً، وأحالته الدولة الأفقر في العالم العربي، بعد أن كانت في ما مضى رمزاً للتنمية المستدامة والاكتفاء الذاتي. فبينما كان يعيش حوالى 45 في المئة من سكان اليمن في عام 2013، دون خط الفقر، زادت الحرب من تعميق تلك الهوة، واليوم هناك 22 مليون نسمة، أي 65 في المئة من مجمل السكان يتطلعون إلى الإغاثة الإنسانية.
ويصارع بقية السكان لتوفير أسباب البقاء والحؤول دون مذلة استجداء العون أو السقوط في شرك أمراء الحرب للتوقيع على ورقة التجنيد للانضمام إلى جبهات القتال لقاء دخل شهري مضمون يسد الرمق. وهكذا تتحول الحرب واقتصاد الحرب إلى ديمومة وسبب ومورد للبقاء عند مئات الآلاف من الشباب اليمني، ما لم تقنصهم رصاصات الموت في الجبهات، لينضموا إلى سكان مدن المقابر المزدهرة بطول الأرض اليمنية وعرضها.
أصدقاء اليمن
في مارس (آذار) 2013، شاركت في مؤتمر لندن لأصدقاء اليمن، الذي نظمته وزارة الخارجية البريطانية بمشاركة 35 دولة، لتقييم التقدم الذي أحرزته الدول في تخصيص وتحويل مساعداتها المالية لليمن، والتي تعهدت بها بشكل تراكمي خلال 5 مؤتمرات لأصدقاء اليمن، وبلغت حوالى 8 مليارات دولار.
ولم تلتزم سوى دول قليلة دفع حصتها، في مقدمها السعودية التي دعمت اليمن لعقود طويلة وما زالت تدعمه خلال سنوات الحرب المأسوية. إلا أن صراع اليمنيين ضد الفقر كان محبطاً، حال دونه فساد السلطة وتقاعس المجتمع الدولي.
ومما يزيد من فداحة المأساة الإنسانية، أن النظام السياسي اليمني كان يعيش حال نكران لوجود الفقر. وكان هناك مَن يعتبر بقاء اليمن على قوائم الدول الأفقر في العالم، “شطارة سياسية” للحصول على مزيد من المال تحت مختلف المسميات. وكان أبرز معالم تلك “الشطارة”، الاتجار بـقضية “مكافحة الإرهاب”، بالتالي المساومة على أمن الإنسان اليمني. واليوم بات اليمني منتهَكاً في كرامته، متهَماً بالإرهاب حتى توصد دونه الأبواب، ووصلت به الحال إلى البحث عن الأكل في صناديق القمامة.
واتذكر حديثاً جرى في عام 2009 بيني وبين أحد أبرز المنتفعين من نظام الولاءات في “دولة الوحدة” قبل الحرب، وتناولت معه الحاجة الملحة لبناء استراتيجية وطنية تنطلق من مكافحة الفقر، وأن على الحكومة أن تقر أولاً، أننا فقراء ونحتاج إلى مقاربة شاملة لمعالجة مرض الفقر والتخلي عن ثقافة الكماليات والقشور، فبمجرد النظر إلى واقع الحال في الريف اليمني تتجلى فداحة بؤس حالنا كشعب. ومع الأسف كان التعليق الذي سمعته من هذه الشخصية وآخرين يقوم على الإنكار، الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه اليوم.
ولما لم نفلح في تشخيص حالنا، تسبب الفقر بالأمراض التي ظهرت، من تعصب وانهيار لمنظومة القيم وفساد وإرهاب وعصابات وإبداعات في آليات ابتزاز الآخرين في محيطنا، فإما أن نعيش من جيوبهم قسراً، وإما أن نفجر أنفسنا، أو نعبث ببيئتنا المشتركة، ونتسبب في إغراق المنطقة في حال من عدم الاستقرار. وما الظاهرة الحوثية إلا بعض تجليات الحالة اليمنية. وحقيقة حالنا تنطلق من الإنكار وسوء التشخيص، ووهن العزم الجماعي نظراً لتسلط قوى الفساد والإفساد. ولم تحقق لنا الحكومات المتعاقبة منذ 60 سنة الحياة الكريمة في حدودها الدنيا، بل انخرطت في صراعات وحروب داخلية وبينية ليصل حال ثلاثة أرباع سكان اليمن اليوم، إلى تحت خط الفقر.
ستون سنة عجافاً
منذ 60 عاماً لم تحقق حكومات اليمن أي نتائج حقيقية في مؤشرات التنمية البشرية، فقد كانت جهوداً عشواء، ولم تحرز أي تقدم في محاصرة الفقر والجوع، ولا في توفير الخدمات الصحية، والمياه النظيفة، والنظافة، وكل ما أنجزته الدولة في التعليم كانت هياكل فارغة محشوة بالغش. وفي قطاع الطاقة، ذهبت المليارات إلى جيوب الفساد تحت مسميات “شراء محطات إنتاج الكهرباء” وتحسين شبكات الطرق” التي لم نرها. ولم تتحقق المساواة بين فئات المجتمع، وزاد تهميش دور المرأة اليمنية العظيمة التي كان يُفترض بها اليوم قيادة التحولات المجتمعية الجذرية.
حتى المجتمعات التقليدية في الريف اليمني التي طالما كانت مثالاً للاستدامة خلال آلاف السنين، تم تدمير مقدراتها ولم يعد بمقدور سكان المناطق الريفية تحصيل أرزاقهم بالطرق التقليدية. هناك حيث كان يعيش المخزون الاستراتيجي للتنمية البشرية، صار الإنسان سلعةً لإدارة أمراء الحرب وصارت المرأة اليمنية تفتش عن لقمة عيش أسرتها، في ظل ظروف قاهرة، بعد فقد الزوج والابن، فقد تم تفريغ مناطق واسعة من حوض العاصمة صنعاء، من الشباب إلى جبهات الحرب مقابل فتات الخبز، ولطالما عادوا في نعوش إن حالفهم الحظ، ما لم تُترك جثثهم في الجبال والصحاري تنهشها الكلاب والكواسر.
وخلال سنوات عملي الطويلة في الدبلوماسية اليمنية، مررت بتجارب شتى وكنت شاهداً على حقيقة التطورات التي عاشها اليمن مع تزايد وتائر الفقر والعوز وغياب الأفق، مقابل بروز فئة قليلة من المنتفعين من المنظومة السياسية. وخلال سنوات عملي في واشنطن، كنت مشاركاً في الاجتماعات السنوية للبنك الدولي مع الحكومة اليمنية، وكان أحدها مخصصاً للحديث عن حزمة الإجراءات للحد من تفشي الفقر، وبعدما انفض الاجتماع لاحظ أحد الزملاء المشاركين، أن أعضاء الوفد اليمني في منتهى الشياكة ويبدو عليهم رفاه ملحوظ في الملبس والمظهر، فيما الخبراء الدوليون كانوا يلبسون أزياء رسمية عملية، فكيف يصدق العالم أننا فقراء ويسارع لنجدتنا، ونحن لسنا فقراء في الأصل!
الأمم المتحدة والإغاثة الإنسانية
خلال الأسبوع الماضي كان اليمن على موعد مع الأمل، حيث أظهرت الزيارة الاستثنائية لنجمة “هوليوود” أنجيلينا جولي إلى عدن، أجمل درجات التعاطف الإنساني مع مجتمع شرده النزاع وقُذف 4 ملايين من سكانه في شتات اللجوء الداخلي، ففي مأرب، تتلقفهم صواريخ الموت الحوثية، وفي تهامة، ينتظرهم الموت وهم يتضورون جوعاً، فيما يتخبط أكثر من 150 ألفاً في مسالك اللجوء الأوروبية بحثاً عن أوطان بديلة.
كما تشهد الأمم المتحدة يوم الأربعاء المقبل، 16 مارس (آذار) الحالي، انعقاد الاجتماع السنوي رفيع المستوى لعام 2022، الذي ينظمه مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية لجمع التبرعات لصالح أعمال الإغاثة الإنسانية لمنظمات الأمم المتحدة وشركائها في اليمن. وخلال السنوات الست الماضية، حصلت الجهود الإغاثية على 14،3 مليار دولار، أو ما يعادل 70،3 في المئة من الاحتياجات التي طالبت بها الأمم المتحدة.
وبمجرد النظر إلى الأرقام، فإن ما كان يُطلق عليها حتى وقت قريب، أكبر كارثة إنسانية في العالم، تشهد عزوف مجتمع المانحين، عن الإسهام السخي، نظراً لطول أمد النزاع وغياب أفق الحل السياسي. فبعد أن كانت التخصيصات قد وصلت إلى 81 في المئة في خطة عام 2019، انحسرت تلك النسبة إلى 57 في المئة في خطة عام 2021. كما ينبغي إبراز أن الجهود الإغاثية الدولية تتعرض لمزيد من الضغوط جراء انضمام أوكرانيا أخيراً إلى قائمة الإغاثة الإنسانية في حالات الطوارئ، إضافة إلى أفغانستان، وإثيوبيا، وهي الدول الثلاث التي تقف اليوم على رأس قائمة الجهود الإغاثية للأمم المتحدة، إضافة إلى جنوب السودان، والسودان، والصومال، وسوريا.
ويتوقع مراقبون أن تأتي تعهدات مؤتمر المانحين خلال الأسبوع المقبل، بأقل مما تحقق في العام الماضي نظراً للأسباب التي ذكرتها آنفاً، حيث يطالب مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة هذا العام بمبلغ 3،9 مليار دولار، إلا أن التوقعات في ظل الظروف الحالية للعمل الإنساني الدولي، تشير إلى عدم إمكانية بلوغ ما نسبته 50 في المئة من الاحتياجات المالية.
ومع دخول الأزمة اليمنية عامها الثامن، تزداد الأوضاع خطورة، فالنزاع يدفع إلى انهيار الاقتصاد وقدرة المجتمع على مواجهة تحديات انتشار الجوع، والتدهور البيئي، والأوبئة والجوائح التي تحصد أرواح الآلاف مع انعدام الخدمات الصحية. وعلى الرغم من هشاشة الاقتصاد اليمني المتوارَثة، أسهم النزاع في انهيار أنظمة الحماية وشبكات الأمان الاجتماعية، بالتالي تآكل النسيج الاجتماعي.
وأدى ضعف الإدارة الاقتصادية إلى فقدان الإيرادات وانخفاض قيمة العملة الوطنية، وارتفاع أسعار المواد الغذائية المنقذة للحياة. وبحسب تقارير الأمم المتحدة، فإن أبرز أسباب الفشل في الأزمة اليمنية، يكمن في سوء إدارة النظام المصرفي وازدواجيته، وتشتت إيرادات صادرات النفط الخام والغاز وتحويلات المغتربين، وعدم قدرة القطاع المصرفي على حوكمة التحويلات المالية لصالح الإغاثة الإنسانية، بما يضعف قدرة الدولة على استعادة المبادرة الاقتصادية.
وخطورة هذه المرحلة من النزاع بنظر خبراء النزاعات في الأمم المتحدة، تكمن في أنها تُفقد الدول رأسمالها البشري، مع سقوط سقف الحماية الاجتماعية بأشكاله الحكومية والتقليدية، مما يدفع الناس إلى اللجوء إلى مزيد من الاستدانة وبيع الممتلكات والأصول والانحدار في السلم الاجتماعي، وانتشار ظواهر مثل الزواج المبكر والقسري وترك مقاعد الدراسة، وانتشار عمالة الأطفال، وأثرها الخطير على النساء والأطفال وكبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة والمهمشين.
فالحرب في اليمن مسؤولة عن قتل اليمنيين، ليس في الجبهات فحسب، بل بما يترتب عنها من سقوط حر للمجتمع إلى مستويات سحيقة من العوز، والمرض، والمجاعة، والتشرد. ومع استمرار الحرب لسنوات مقبلة، سيشهد اليمن مزيداً من الانسحاق والموت ما لم تصح الإرادة الجمعية للشعب اليمني لوقف الحرب والبحث عن فرص السلام والعيش المشترك.
من الإغاثة إلى الاستدامة الإنسانية
لقد تناولت في عديد من كتاباتي وتصريحاتي، قناعتي بأهمية الجهود التي تقودها الأمم المتحدة لإغاثة الشعب اليمني عبر دعم خطة الاستجابة الإنسانية للأمم المتحدة، على الرغم من ملاحظاتي الكثيرة على مستوى أداء الأمم المتحدة وشركائها على الأرض. ومن هنا فإن مؤتمر الأسبوع المقبل، سيكون مهماً لمعرفة مستوى التزام المانحين الإنسانيين وتفاعلهم مع معاناة الشعب اليمني المتزايدة، بخاصة وأن ثلثي سكان اليمن يعتمدون على سخاء دعم المانحين.
ودقت وكالات الإغاثة ناقوس الخطر محذرةً من أن نقص التمويل يهدد بقطع المساعدات المنقِذة للأرواح، عن ملايين الضعفاء في اليمن. وسيتناول اجتماع الأسبوع المقبل التوجه لتركيز الجهود الإغاثية في اليمن على مكافحة بؤر المجاعة والقيام بالمزيد بشكل مواز للانتقال إلى الاستدامة الإغاثية، بما في ذلك الجهود الجارية لإعادة إنعاش الأداء الحكومي واستعادة بعض التوازن للاقتصاد اليمني.
فإن الجهود التي يبذلها البرنامج الإنمائي لدعم استدامة مجتمعات صيد الأسماك، بالغة الأهمية، حيث تشير التقارير الأممية إلى تدمير مصادر رزق 70 في المئة من صغار الصيادين من جراء الصراع الدائر. وتستهدف هذه الجهود إنعاش الاقتصاديات المحلية، مثل إعادة تأهيل التجمعات السمكية، وتزويدها بالقوارب، وأجهزة التخزين والتبريد، وإشراك المرأة في الدورة الاقتصادية.
كما أن تجربة البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن تشكل أرقى مراحل الاستدامة الإغاثية، بخاصة مع تركيز البرنامج على قطاعات الزراعة والثروة السمكية والتعليم والصحة والمياه وبناء السدود، فهي مجالات تمس حياة المجتمعات المحلية التي أدى الصراع إلى تدمير مقدراتها، وتمكينها من العودة إلى مصادر رزقها التقليدية.
وتراهن الأمم المتحدة على قدرة المجتمع اليمني وقواه السياسية والمدنية والمجتمعية، على كسر دورة العنف خلال العام الجاري، والنجاح في تحدي وقف الحرب والشروع في الطريق الطويل لبناء السلام، مما سيشجع الشركاء على تقديم الموارد اللازمة للشعب اليمني لتمكينه من عكس الاتجاهات المرعبة لانتشار بؤر المجاعة، والعودة التدريجية إلى الاستقرار والتعافي الاقتصادي. وبتقديرات البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، فإنه في حال توقفت الحرب في عام 2022، فسيكون بمقدور اليمنيين العودة إلى المستويات التي كانوا عليها قبل الحرب، في عام 2050.
إن تحقيق ذلك يقع على كاهل اليمنيين، ولن يكون بمقدور أحد القيام بذلك نيابة عنهم، ما لم تتوفر الإرادة والعزيمة، لعكس وتيرة التدهور الكامل في مختلف المجالات. وحينما يدرك اليمنيون تطلعاتهم المشروعة، ولا ينكرون واقعهم، ويركزون في مكافحة الفقر وبناء الإنسان اليمني والعودة إلى التنمية المستدامة التقليدية للأرض اليمنية، كواحدة من أعرق المجتمعات على وجه الأرض، يكون بناء اليمن الجديد ممكناً، والبداية تكمن في وقف الحرب.
المصدر: اندبندنت عربية