كتابات خاصة

حكايات من قلب المقاومة (11)

أحمد عثمان

كانت أم جلال امرأة عصامية قوية وواعية، عندما هجم الحوثيون على تعز وجدت زوجها قد التحق بهم لم يعد بمقدور (سالم) أن ينكر ذلك، لقد أصبحت حركته مكشوفة وهو الذي حرص أن يخفي ذلك على زوجته التي ترى في الحوثي وعفاش مصيبة ودبوراً. (أم جلال) كتيبة التموين الخاصة
كانت أم جلال امرأة عصامية قوية وواعية، عندما هجم الحوثيون على تعز وجدت زوجها قد التحق بهم لم يعد بمقدور (سالم) أن ينكر ذلك، لقد أصبحت حركته مكشوفة وهو الذي حرص أن يخفي ذلك على زوجته التي ترى في الحوثي وعفاش مصيبة ودبوراً.
– هيا مو يا سالم مش راضي تبعد الدبور، أمس حلفت إنك مش مع أحد، وأقسمت إنك مشتحاربش أهلك؟
.. اليوم مو اذى فوق ظهرك مشقر به مثل إبليس، يعني شتقتل أهلك يا سالم؟
–لا والله ما شقتل أحد يا (مكلف)، أنا أدبر حالي، الناس كلهم يدبرون حالهم بمصروف وسلاح ورصاص و(طز) بهم… وعلى مو أقاتل.. مو أنا أهبل؟
— والله إنك أهبل يا (سالم)، هي حرب مش صفاط، مش وحدك الحاذق، شتورطنا وما شتدري إلا وأنت غارق بدم عيال عمك وإخوانك!
الله يصيبك ويلعن الطمع ما نشتيش (بياس)! الأصل تكون رجال مثل (محمد) أخوك و(سعيد) ابن عمك شلو سلاحهم يدافعوا على مدينتهم واعراضهم.
— يا أم جلال سكهينا (محمد) و(سعيد) إيش الفرق بيني وبينهم، هم حملوا سلاح وأنا حملتو سلاح، ماحد شحارب.
 كله مصالح يا (أم جلال) أنا فدا لاتكونيش غبية.
— أني غبية (كشفك).. مو اذي المصيبة اللي أصابني الله بك؟.. تدري محمد اخوك شيكون فخر لأولاده لو استشهد، فخر لنا كلنا انت لو قتلت مو نقل؟  فضيحة؟
 كيف شمشوا عيالك بين أصحابهم، شكونوا عيال الخائن سالم!
إعذب الشيطان الرجيم يا رجال، ورجع بندق إبليس هذا اللي على ظهرك.. وحشت بي الله يوحشك.
لم يكن سالم ليقوى على فراق زوجته، فهي امرأة البيت ومدبرة ومربية للأولاد، ولم يجد إلا الرضوخ والوعد بإعادة (السلاح)، والكف عن الالتحاق بالحوثي.
 كانت (ام جلال) تعلم أنه لن يمتنع عن السير بركابهم، فهو بدا يتصرف خارج البيت كقائد مجموعة، وعقد اجتماعات مع آخرين، لكنها كانت تريد أن تخفف من حركته وتبعده من أن ينطلق من البيت في أعماله العدائية وتضعه يشعر بالخطيئة أمام شخصيتها القوية التي كان يصفها بـ(البوليس). 
عندما اندلعت الاشتباكات استطاعت المقاومة أن تسيطر على المنطقة، ليفرّ (سالم) مع من فروا من الحوثة والمتحوثين.
 توسعت المقاومة واستولت على منطقة الستين في الجهة الشمالية كاملة، وعملت نقاط كثيرة احضروا دبابات ليصبح شارع الستين مفتوحا للمقاومة، كان ذلك في بداية الاقتحام.
 ولأن جماعة الحوثي و”صالح” كانت ترى في مدخل الستين موقعا استراتيجيا لاقتحام المدينة وخنقها، فقد أعدوا فرق كاملة من معسكر اللواء 22 حرس، أكبر معسكر بالمحافظة مع كتائب الحوثة الخاصة، وهجموا على الجهة الشمالية بكثافة نيرانية وبسياسة الأرض المحروقة، لكن النتيجة كانت صمود المقاومة وتكبد الجماعة خسائر فادحة.
واستمرت المعارك الملتهبة لأسابيع سقط فيها شهداء بعضهم قادة فاعلين دون أن تتقدم قوة العدو خطوة واحدة.
وفي صباح ذات يوم من منتصف العام 2015، استيقظت المدينة على سقوط جبهة الستين وكانت يوماً سوداء لأهالي المدينة الذين أخذوا يتساءلون عن سبب السقوط؟، فالجبهات في تعز كما عرفوها صامدة تتقدم ولا تسقط؟ 
 جماعة الحوثي وصالح نقلت كل ثقلها ومعسكرها إلى هناك كمعركة مصيرية لتبدأ معها اجتياح المدينة أو هكذا توهمت حينها، وكل ما استطاعت المقاومة فعله في ذاك الصباح هو سحب الأسلحة الثقيلة والدبابات إلى جبل جرة؛ بينما أعطيت أوامر لبقية المجموعات بالانسحاب أمام كثافة الاجتياح إلى مواقع خلفية ليبدأ معها ترتيب المقاومة وصفوفها.
الحرب كر وفر. قال القائد (نبيل) ونحن لم نبدأ بعد، قالها لأفراده بثقة كبيرة أعطت انطباعاً إيجابياً، ليبدأ العمل الآن واللحظة؛ ولن يتقدموا خطوة بعد اليوم لو بقوا سنوات كمن يعد بتلافى قصور ما.
كانت قرية (أم جلال) بالقرب من الستين، وعندما انسحب منها المقاومون كانوا في وضع لا يستطيعون معه سحب السلاح والذخيرة تحديداً، فهم بقوا كمؤخرة لحماية الانسحاب، وعندما بدأ القائد (فيصل) البحث عن مكان لإخفاء الذخيرة قبل أن يصل الحوثي لم يجد، وبدأ التفكير بالتفجير بالمخزن، وقبل أن يبدأ إحراق الذخيرة وهي كمية غير قليلة جاءت (أم جلال) التي يعرفها المقاومون جيدا كداعمة للمقاومة وقيادية بين النساء لتعرض عليهم بكل ثقة إخفاء السلاح في منزلها:
– خلوا الذخيرة عندي في البيت وشنبصر طريق نهربه لكم.
كانت مفاجأة، فعمل مثل هذا لا يقدم عليه الشجعان من الرجال فهو يعرض صاحبه لمخاطر حقيقة ويهدد الحياة!
(أم جلال) كانت جازمة واثقة، ولم يجد القائد سوى تنفيذ المقترح، خاصة ورصاصات المهاجمين تقترب وتصل إلى المكان.
بدأت المقاومة تثبت مواقعها بمكان غير بعيد من بيت (أم جلال).
 قال عبدالرزاق للقائد: ذلحين كيف طرحت.
الذخيرة عند (أم جلال) مش عارف أن زوجها حوثي تقل ما خدعناش.
-لا يا عبدالرزاق (أم جلال) امرأة صادقة من بنات تعز.
أنا مش خائف منها، أنا قلق عليها لو اكتشف الأمر ستتعرض المسكينة لأذى هؤلاء مجرمون.
بعد ثلاث أيام كانت (أم جلال) قد خرجت إلى السوق، وعند عودتها مرت على قائد المقاومة الذي سلمها الذخيرة.
 وبلغة المقاوم قالت: اسمع الذخيرة عندي بأمان ونفكر بإيصالها إليكم.
قال عبد الرزاق: و(سالم) كيف؟
–مش عليكم (سالم).. كان سالم قد عرف بحقيقة الذخيرة وأخبرته زوجته وأنها تقوم بواجبها وعندما بدأت تؤنبه على استمراره، قال لها أحسن حاجة عملتيه! أنا معك خلينا مع الحوثي وأنت مع المقاومة أهم شيء بيتنا لا تخرب.
— والله بيتنا أشوفها خربت بك يا (سالم)، الله يهديك لكنها بدأت لينة معه هذه المرة من أجل (ذخيرة) المقاومة التي في البيت، بينما رأى (سالم) بقصة زوجته مع (الذخيرة) ورقة تلطيف أو رشوة يقدمها لزوجته لكي يخفف من حنقها عليه، ووعدها بكتمان الأمر.
مؤكداً: الأمر يضرنا ويضرك انت بس أسرعي بإرجاعها احتياطا… أنا قلتوا لك أنا مع نفسي أدبر حالي.
عندما انصرفت (أم جلال) من عند المقاومة كانت قد اعطتهم خطة لإعادة الذخيرة ملخصها
— عندما تحتاجوا رصاص (آلي) اعملوا (رنة) واحدة، وعندما تحتاجوا رصاص (شيكي) اعملوا (رنتين)، وعندما تشتوا قنابل اعملوا (ثلاث) رنات…. طرحت الخطة أمامهم للتنفيذ كقائد عسكري خريج كلية عسكرية وانصرفت وهي تقول: أهم شيء تشتحطوا وماترقدوش والله إني مغلوب، وبي غلب حمار، وثلاث أيام لا أنام من القهر، استعدوا ولا تدخلوا بينكم ضعاف ولا خونة، وعليا…. والله ما يقدروا يتقدموا شبر خوافين.. الله يصيبهم.
بعد يوم قال عبدالرزاق للقائد: كه اعمل رنة لام جلال.. رنة واحدة بس.
— ليش مو اعجلك معانا ذخيرة مانحتاجش.
–أدري أدري بس اعمل رنة لو سمحت.
— منتش واثق بالمرأة والله انها تزن مدينة.
– لا واثق والله، بس اشتي اشوف أشجن اعمل رنة ماشضركش حاجة.
–اهه هذه رنة أعجبك.
لم تمض ساعة على الرنة والا وشنطة ذخيرة (آلي) أمام القائد الذي التفت نحو عبدالرزاق: قم ياعبدالرزاق احمل الشنطة.
قبل أن تنصرف قالت: اليوم علمتوا انهم شهجموا الساعة 5 الفجر، من المدخل القريب من السايلة.
— عبدالرزاق الله يرحم والديك يا (أم جلال) اتعبناك معانا.
— لا ما اتعبتنيش اني ما اشتغلش معاكم، أنتم اللي تدافعوا علينا وأني أعمل واجبي؛ مع السلامة.
كانت (أم جلال ) تتحرك بحرية، وكونها زوجة (سالم) أعطاها مساحة الحركة بعيداً عن الشك 
واستمرت الخطة تنفذ بنجاح بحسب (الرنات).
كانت الاشتباكات لا تهدأ، ومع تساقط الضحايا من الحوثيين تزداد وتيرة الهجوم وعددهم.
أخذت الحارة تتحدث عن العدد المهول لقتلى الحوثيين الذين يبقون في الشوارع دون أدنى اهتمام.
 قال الحاج (ناجي) وهو يتساءل عن سر عدم الاكتراث بالقتلى: معقول هؤلاء الجماعة عندهم الإنسان رخيص إلى هذه الدرجة، يرجمون بأصحابهم إلى التهلكة دون احتياط أو تريث. كأنهم قاصدين إبادتهم!
في إحدى الليالي اشتدت الاشتباكات، وطالت، كان هناك مدد كبير للحوثيين الذين عزموا على اقتحام الموقع.
وعلى غير العادة استمرت المعركة حتى الفجر، وبعد الفجر استأنفت المعركة بفرقة جديدة من قبل الحوثيين، والمقاومة منهكة والخطر في نفاد الذخيرة، وهي نقطة ضعف متكررة ورغم اتصال القادة لإمدادهم بذخيرة إلا أنها لم تأت حتى الفجر، وبدأت فكرة الانسحاب تطل بوجهها القبيح.
— والله لانحارب بالحجارة، يكفي انسحاب الموت اخرج. يقول عبدالرحمن ومن تأخر يتحمل المسؤولية.
– اقتصدوا بالذخيرة ولا يهمكم باتصل الآن.
الساعة السابعة صباحاً ولم تحضر الامدادات.. القائد كمن يهيئ أفراده للانسحاب، كأننا سننفذ مرة أخرى.  انسحاب تكتيكي يا شباب استعدوا.
يقفز عبد الله من مكانه: ما فيش انسحاب لا تفكروا بالانسحاب.
يقترب عبد الرزاق و بهدوء: يا استاذ اعمل (رنة) لـ(ام جلال) والله إنها اسرع.. ليش نسيت؟
 — أيوه (أم جلال) إيش نسانا؟ الإرهاق.. يضرب كل (الرنات).. رنة، وبعد لحظات (رنتين) بعد لحظات (ثلاث) رنات، وكمن يقول نحن بحاجة كل الذخيرة. 
استمر الصمود؛ الساعة الثامنة تكاد الذخيرة تنفد نهائياً، وبدأ الاستعداد العملي بالانسحاب الثقيل على نفوسهم.
–ملعون من انسحب، يقول عبد الرحمن بغيظ شديد.
 في الساعة الثامنة وخمس دقائق وموقع المقاومة يرتفع بالتكبير بأعلى الأصوات وهو الصوت الذي أرعب المهاجمين وأربكهم.
 لقد وصلت (أم جلال) مستعينة بامرأتين من جيرانها، وكان المدد ما تبقى من الذخيرة بأصنافها الثلاثة بحسب الرنات، وهي كمية كانت كافية لصد الهجوم واسقاط قتلى وجرحى من المهاجمين؛ ومع الذخيرة حملت (ام جلال) وصويحباتها دفعة من المعنويات اللازمة وجاء معها النصر وانقاذ الموقع من السقوط.
قال (القائد): شكرا لله وشكراً لكم يا شباب أقبل أقدامكم.
الشكر لـ(أم جلال) نقبل التراب الذي سارت عليه. يقول أحدهم.
ينهض عبدالرزاق منتشياً وهو يقول: (ام جلال) هي بطلة النصر اليوم، هذه روح لهذه المدينة، لقد كانت كتيبة تموين خاصة، ومدينة نسائها على هذه الصورة تستحق التضحية ولا بد لها أن تنتصر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى