قبل أن يجف حبر الإعلان الأميركي الروسي عن وقف القتال في سورية، مؤقتاً، كانت قوات أميركية وفرنسية تحط في ليبيا، مع شيوع أنباء عن تحريك معداتٍ وآلياتٍ من مصر، صوب الأراضي الليبية، فيما بدا وكأنها حملة دولية لانتشال قائد الثورة المضادة في ليبيا، خليفة حفتر، عقب انتهاء مهمة اللاعبين الدوليين الكبار في سورية، بتعويم بشار الأسد، وإنعاش حظوظه في البقاء.
كل صيحات الحرب، العربية والغربية، ضد بشار الأسد انتهت إلى تثبيت أركان حكمه، ومنحته مساحاتٍ وقدراتٍ للحركة فوق جثة الثورة السورية، منذ أعلن باراك أوباما، عقب مجزرة الكيماوي في الغوطتين 2013، أن الضربة الأميركية خلال ساعات، وحتى الحديث عن قوات عربية، بقيادةٍ سعودية، تستعد لدخول سورية، للحرب ضد تنظيم الدولة.
كل الذين أعلنوا الحرب على “داعش” خدموا بشار الأسد، وداعش معاً، فيما الخاسر الوحيد هو الشعب السوري وثورته، لتبقى الحقيقة المؤكدة في كل ذلك، أنهم يقتلون ربيعنا العربي، باسم الحرب على داعش.
في مايو/ أيار 2013، قدّمت “إسرائيل” أولى هداياها الثمينة لبشار الأسد، حين قصفت ما قيل إنها قواعد أبحاث علمية على الأراضي السورية. لحظتها، وجد بشار ضالته، لكي يستعيد ملابس القائد الممانع في وجه العربدة الصهيونية التي أسقطتها عنه مجريات الثورة السورية وجرائمه البشعة ضدها، لتتوالى، فيما بعد، الهدايا الإسرائيلية، إلى أن وصل الأمر إلى إعلان “تل أبيب” صراحة اشتراكها في مشروع إنقاذ نظام بشار الأسد من السقوط.
كانت المسألة السورية حاضرة في لائحة الأسباب التي دفعت بالمجموعة ذاتها من اللاعبين إلى التعجيل بإنهاء تجربة حكم محمد مرسي في مصر، سريعا، فكان ثالوث “الرغبة الإسرائيلية والرضا الأميركي والتمويل الخليجي” فاعلاً، ولا يزال، يؤدي دوره بدأب في الإجهاز على ما تبقى من ملامح ثورةٍ في سورية وليبيا.
حتى شهور سبقت على الانقلاب العسكري “الثلاثي” في مصر، كنت ومازلت أتعامل مع التحليلات التي تتحدث عن أصابع متصهينة، تمتد إلى تفاصيل المشهد السياسي في مصر بكثير من التحفظ وعدم التصديق، واعتبارها جنوحاً مفرطاً للاختباء في أحراش نظرية المؤامرة.
حتى جاءت تصريحات وزير الخارجية الأميركى الأسبق، ذي الميول الصهيونية الواضحة، هنري كيسنجر التي أطلقها، في المؤتمر السنوي لمجلس العلاقات الخارجية الأميركي في نيويورك، مارس/ آذار 2013، واعتبر فيها أن المخرج في مصر هو مواجهة مسلحة بين الجيش المصرى و”الإخوان المسلمين”، لإزالة آثار ثورة يناير/ كانون الثاني التي أصابته بالحزن على سقوط حسني مبارك، فقال نصاً “كان على الولايات المتحدة أن تعامل مبارك باحترام أكثر مما فعلت، فلم يكُن هناك ضرورة تدعو الإدارة الأميركية إلى أن توجه دعوات علنية لمبارك بالرحيل من خلال شاشات التليفزيون”.
كتبت، في ذلك الوقت، أن الأمر لا يحتاج إلى مزيدٍ من الجهد لإدراك أن الدوائر الصهيونية تتحرق شوقاً لاندفاع الأوضاع داخل مصر إلى جحيم الحرب الأهلية، ولا تدّخر حيلة لكي تذهب مصر إلى صدامٍ بين الجيش والرئيس المنتخب، ذلك أن هؤلاء لا يستطيعون الحياة، إلا فى وجود كنوز استراتيجية، تقود مصر وفقاً لسيناريوهات هم واضعوها، لتبقي ذلك الأسد العجوز منزوع المخالب والأنياب، يرقد متثائباً في انتظار ما يلقى إليه من مخلفات المطبخ الأميركي الصهيوني.
ولعلك تذكر البكائيات التى صدرت عن قادة إسرائيل بعد إسقاط حسني مبارك، وفي مقدمتهم بنيامين بن إليعازر وزير دفاع العدو وصديق مبارك الذي قال بعد الحكم عليه بالسجن: “هذا الرجل هو العامل الأساسي في استقرار الشرق الأوسط. العالم مدين له كثيراً، وحتى الولايات المتحدة نفسها مدينة له بالكثير”. وأضاف: “هو أول من قام بتطوير منظومة العلاقات مع إسرائيل”.
وفيما بعد، لم تخف إسرائيل موقفها من انتخابات الرئاسة المصرية، والتي لخصتها رؤية مستشرق إسرائيلي، يدعى شاؤول بيلو، في تلك الأثناء بقوله: “على الغرب البحث عن طرق (إبداعية) لمساعدة شفيق في الفوز بمقعد الرئاسة”.
وعلى ضوء ما سبق، يمكنك أن تفهم هذه الاستماتة الإسرائيلية، في احتضان نظام عبد الفتاح السيسي، والدفاع عنه بكل السبل، وكذلك إصرارها على منع سقوط نظام بشار الأسد، غير أن ما يلفت النظر أكثر أن الأطراف الفاعلة في إحراق الثورة المصرية هي نفسها التي تكرّر الجريمة ذاتها في سورية وليبيا، وكأنهم تواعدوا على الإفطار بثورة مصر، والغداء بالسورية. والآن، جاء وقت العشاء بوليمة ثورة ليبيا، برعاية “الشيف هنري كيسنجر”.
نقلا عن العربي الجديد